مسيحيو فلسطين .. ملح الارض وعبقها
بقلم : الدكتور حنا عيسى – امين عام الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات
نشأت الحركة الوطنية الفلسطينية على أسس بينة وواضحة كان من ابرزها إلغاء وعد بلفور لما يتضمنه من ظلم وإجحاف بحقوق الأغلبية الساحقة من السكان، إيقاف الهجرة اليهودية، وقف بيع الأراضي لليهود، إقامة حكومة وطنية فلسطينية منتخبة عبر برلمان (مجلس تشريعي) يمثل الإرادة الحقيقية الحرة للسكان، الدخول في مفاوضات مع البريطانيين لعقد معاهدة تؤدي في النهاية إلى استقلال فلسطين.
وأقام الفلسطينيون مؤتمرهم الأول (المؤتمر العربي الفلسطيني 27 يناير-10 فبراير 1919) في القدس، الذي رفض تقسيم بلاد الشام وفق المصالح الاستعمارية، وعدَّ فلسطين جزءاً من سوريا (بلاد الشام)، وطالب باستقلال سوريا ضمن الوحدة العربية، وتشكيل حكومة وطنية تمارس الحكم في فلسطين، وقد عقد الفلسطينيون سبعة مؤتمرات من هذا النوع حتى عام 1928.
ركزت الحركة الوطنية الفلسطينية خصوصاً خلال (1918-1929) على المقاومة السلمية للمشروع الصهيوني، ومحاولة إقناع بريطانيا بالعدول عن وعد بلفور، وقد كان لا يزال لديها بقايا أملٍ في ذلك، خصوصاً وأن البريطانيين كانوا حلفاء الشريف حسين خلال الحرب العالمية الأولى، كما أن المشروع الصهيوني لم يكن قد حقق بعد أية نتائج عملية ذات أبعاد خطيرة على الوضع في فلسطين. هذا، فضلاً عن أن القيادة الفلسطينية لم تكن ترى أن الفلسطينيين يملكون الوسائل البديلة المكافئة التي تمكنهم من فرض إرادتهم على البريطانيين. كما أن القيادة نفسها لم تكن تملك العزيمة والإرادة والتماسك لتحدي البريطانيين بوسائل أكثر عنفاً. ولعبت قلة الخبرة السياسية، والتنافس العائلي على القيادة (الحسينية والنشاشيبية) ـ والذي أسهم البريطانيون في تأجيجه ـ دوره في إضعاف الحركة الوطنية الفلسطينية. غير أن هذا لم يؤثر بشكل عام على الموقف المبدئي الفلسطيني من المشروع الصهيوني والاستعمار البريطاني، ومن المطالب السياسية العامة للحركة الوطنية.
ومن الناحية السياسية، أرسلت القيادة الفلسطينية وفدها الأول إلى لندن في يوليو 1921، الذي التقى وزير المستعمرات ونستون تشرشل W.Churchilوعدداً من المسؤولين، لكن جهوده لم تلق آذاناً صاغية من الحكومة البريطانية، وإن كان نجح في دفع مجلس اللوردات البريطاني بإصدار قرار برفض وعد بلفور. ومن جهة أخرى، أفشل الفلسطينيون محاولة بريطانية تشكيل مجلس تشريعي في فلسطين سنة 1923 منزوع الصلاحية الفعلية، ولا يمثل بشكل صحيح سكان فلسطين. ولقيت زيارة بلفور لفلسطين سنة 1925 احتجاجات عامة، وتمت مقاطعته، ونُفذ إضراب شمل كل فلسطين. وفي المؤتمر الفلسطيني الخامس 22-25 أغسطس 1922 وضع المؤتمرون ميثاقاً وطنياً.
وكانت ثورة البراق 1929 فاتحة لعقد تصاعدت فيه المقاومة للمشروع الصهيوني وللاستعمار البريطاني على حد سواء، وقد وصلت ذروتها في الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939). فقد أخذت تتكرس خطورة المشروع اليهودي-الصهيوني خصوصاً إثر هجرة أكثر من 152 ألف يهودي خلال الفترة (1930-1935)، مما ضاعف عدد اليهود الذين كان عددهم في منتصف سنة 1929 حوالي 156 ألفاً، وكان الكثير من المهاجرين الجدد من ألمانيا، من رجال الأعمال وأصحاب الأموال والتجارة ومن العلماء المتخصصين. كما تمكن اليهود في الفترة نفسها (1930-1935) من الاستيلاء على 229 ألف دونم من الأراضي الفلسطينية. وهرّب اليهود كميات ضخمة من الأسلحة كُشفت حالتان منها في 15 مارس 1930، وفي 16 أكتوبر 1935.
وكانت الثورة الكبرى من أعظم الثورات في تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر. وقد تفجرت في 15 إبريل 1936 على يد مجموعة قسامية بقيادة الشيخ فرحان السعدي، قامت بقتل اثنين من اليهود. ثم تفاعلت الأحداث، وحصلت ردود فعل غاضبة متبادلة بين العرب واليهود، وأعلن أبناء فلسطين الإضراب العام في 20 إبريل، وتم توحيد الأحزاب العربية، وتشكيل اللجنة العربية العليا (التي تولى رئاستها الحاج أمين الحسيني بنفسه) في 25 إبريل، وقامت اللجنة بالإعلان عن الإصرار على الاستمرار في الإضراب حتى تحقيق المطالب الفلسطينية في إنشاء حكومة فلسطينية مسئولة أمام برلمان منتخب، ووقف الهجرة اليهودية، ومنع بيع الأراضي لليهود. واستمر الإضراب 178 يوماً (حوالي ستة اشهر) ليكون أطول إضراب في التاريخ يقوم به شعب بأكمله. ورافق الإضراب ثورة عارمة عمّت كل فلسطين، ولم تتوقف المرحلة الأولى من الثورة إلا في 12 أكتوبر 1936، بناء على نداء ملوك وأمراء العرب، و تهيئة لقدوم لجنة تحقيق ملكية بريطانية (لجنة بيل) لتدرس الوضع وتقدم توصياتها. وقد صدرت توصيات هذه اللجنة في مطلع يوليو 1937، واقترحت تقسيم فلسطين بين العرب واليهود.
وقد اندلعت الحرب فور صدور قرار التقسيم، وتحمل أبناء فلسطين أعباءها في الأشهر الستة الأولى، بمساعدة عدد محدود من المتطوعين، إذ رفضت الدول العربية إرسال جيوشها إلى أن تخرج بريطانيا في 15 مايو 1948. وشكّل الفلسطينيون جيش “الجهاد المقدس” بقيادة عبد القادر الحسيني، كما شكّلت الجامعة العربية “جيش الإنقاذ” من متطوعي البلاد العربية والإسلامية. وقد عانى أبناء فلسطين من هزالة الدعم العربي بالسلاح والعتاد لدرجة مأساوية، ومع ذلك تمكنوا من إثارة قلق اليهود ورعبهم فترة طويلة، ووصل الأمر بالولايات المتحدة للتفكير الجدي بالتراجع عن فكرة التقسيم في مارس 1948. وحتى دخول الجيوش العربية تمكن الفلسطينيون من المحافظة على نحو 82% من أرض فلسطين رغم النقص المريع في كل شيء قياساً باليهود، ورغم تعاون البريطانيين – في أثناء انسحابهم -مع اليهود. وقد مثّل دخول الجيوش العربية السبعة قصة مأساة أخرى، فلم يزد عدد مقاتليها مجتمعة عن 24 ألفاً مقابل أكثر من 70 ألف يهودي، وعانت من ضعف التنسيق بينها، وجهلها بالأرض، ومن أسلحتها القديمة والفاسدة، وشغل بعضها أنفسهم بنـزع أسلحة الفلسطينيين بدلاً من تسليحهم، كما عانى بعضها من سوء قياداته، فضلاً عن أن أحد هذه الجيوش كان بين ضباطه الخمسين الكبار 45 بريطانياً. وفضلاً عن الاستقلال الحديث لبعض الدول العربية، وقلة خبرة جيوشها، فإن بعض هذه الدول كان لا يزال عملياً تحت النفوذ الاستعماري البريطاني.
وبرز في قيادة الحركة الوطنية رئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر الفلسطيني موسى كاظم الحسيني الذي استمر في الزعامة الرسمية للحركة الوطنية حتى وفاته في مارس 1934. غير أنه من الناحية الفعلية برز اسم الحاج أمين الحسيني، الذي أصبح مفتي القدس سنة 1921، ورئيس المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى منذ تأسيسه سنة 1922، والذي غدا أهم قلعة للحركة الوطنية والقوة الدافعة خلفها. وبوفاة موسى كاظم الحسيني أصبح الحاج أمين زعيم فلسطين دون منازع حتى نهاية الاستعمار البريطاني سنة 1948.
والمسيحيون الفلسطينيون هم جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني وقدموا تضحيات جسام بجانب إخوانهم المسلمين، وبرزت منهم القيادات التاريخية التي شكلت معالم بارزة في مسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة أمثال د. جورج حبش حكيم الثورة وضميرها، وديع حداد، كمال ناصر، ونايف حواتمة، وايميل غوري والأب إبراهيم عياد وبرز منهم مفكرين ومؤرخين واعلاميين أمثال ادوارد سعيد، وعزمي بشارة، وروز ماري سعيد، وشعراء وأدباء أمثال اميل حبيبي ، ومن المسيحيين أعضاء في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وسفراء في دول كثيرة، ومنهم نواب في المجلس التشريعي الفلسطيني ووزراء في كافة الحكومات الفلسطينية المتعاقبة، والقافلة تطول .
وظهر نخبة من السياسيين المسيحيين الذين كان لهم اثر واضح وبالغ في مسيرة النضال الفلسطيني منهم عضو اللجنة التنفيذية حنان عشراوي، وعضو اللجنة التنفيذية حنا عميرة، والأمين العام للهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات الدكتور حنا عيسى، ورئيس مجلس أمناء جامعة بير زيت الدكتور حنا ناصر، وغبطة البطريرك ميشيل صباح.
والالاف من المسيحيين ذاقوا مرارة الاعتقال وقسوة السجان، واحتجزوا مع المعتقلين المسلمين في ظروف قاسية، وتعرضوا لما تعرض له باقي المعتقلين من معاملة لا إنسانية ولصنوف مختلفة من التعذيب والحرمان، وكانوا شركاء في الألم والصمود والنضال خلف القضبان، بينهم من اعتبروا قيادات ورموز للحركة الأسيرة، أمثال المطران كبوتشي، الياس جرايسة، وفا الصايغ، إلياس الجلدة، عطا الله أبو غطاس، وكريستيان بندك أحد محرري صفقة ” وفاء الأحرار ” والمبعد الى غزة، وغيرهم الكثيرين.
وقائمة شهداء الحركة الوطنية الأسيرة تضمنت أسماء مسيحيين ايضا وهم الشهيد كمال ناصر – اغتيل في 10/4/1973 على يد المخابرات الاسرائيلية في بيروت والشهيد خضر هيلانة – اغتيل في سجن نابلس بتاريخ 14/7/1976 والشهيد”خضر الترزي” من مدينة غزة والذي استشهد بتاريخ 9/2/1988بعد اعتقاله والشهيد سلام هيلانة – اغتيل في ميدنة بيتونيا بتاريخ 21/11/2004 … الخ .
اترك تعليقاً