اتفاقية مونترو والحسابات التركية
د. علي نازلي- دكتوراه علوم سياسية وعلاقات دولية
يعتبر القرار التركي بتطبيق بنود اتفاقية مونترو مفاجئ للعديد من الاطراف سواء المباشرة أو الغير مباشرة في النزاع القائم بين روسيا وأوكرانيا, لما يشكله القرار التركي من أهمية على مجريات التصعيد الحاصل وكذلك على الاصطفاف والتمحور المتزايد والذي يأخذ منحى كبير في الفترة الحالية والقادمة بين قطبي العالم بزعامة الولايات المتحدة الامريكية وبزعامة روسيا.
حيث عُقدت اتفاقية مونترو عام 1936 والتي بموجبها تم منح تركيا حق للسيطرة والتحكم في مضيقي البوسفور والدردنيل التركيين وتنظيم عبور السفن الحربية والمدنية من خلالها, واستندت تركيا على الصلاحيات التي تمنحها الاتفاقية ويسمح لها في فترة الحروب بمنع مرور السفن الحربية لأطراف النزاع والاستثناء يكون في حالة العودة لهذه السفن الى موانئها بدون تقييد حرية المرور عبر المضيقين.
وفي ذات السياق قد لا يُعتبر هذا القرار مُفاجئ حيث أن المتتبع للسلوك السياسي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وما يتمتع به من كاريزمية قيادية في اتخاذه للعديد من القرارات المهمة وهي تتعلق بشخص الرئيس نفسه. كما أن اتخاذ وصناعة القرار لا تتجاهل العوامل الموضوعية المحيطة وهي دراسة البيئة الواقعية ببُعديها البيئة الداخلية والبيئة الخارجية. وكذلك ما سيتحقق من مكاسب لما بعد اتخاذ القرار. فاتخاذ قرار إغلاق المضيق من جانب تركيا لم يكن بالقرار السهل، خاصة أن المنطقة تعيش على صفيح ساخن ورمال متحركة والخيارات ليست سهلة لكن هذا القرار كان مطلوبًا في إطار الانسجام القيمي والأخلاقي لتركيا والاصطفاف إلى المنظومة الدولية بتوجهها العام وهو رفض الاعتداء والحرب على دول وشعوب العالم لأنها تُعتبر مخالفة للقانون الدولي. وسبق لتركيا اتخاذ قرارات مهمة وجريئة كان منها عدم السماح للطائرات الامريكية والغربية بشن غارات على العراق انطلاقًا من تركيا.
فالحرب على أوكرانيا أحدث إرباكًا واضحًا في تصريحات وأفعال صُناع القرار في أوروبا وأمريكا والتي تمثلت في ضعف التصريحات وتخبطها في بعض الأحيان مما فُهم في إطار كسر هيبة حُلفاء أوكرانيا أمام روسيا مما زاد في شهية الروس في تطوير وقوة العدوان على أوكرانيا واجتياح ودك المدن الكُبرى. مما جعل الاتحاد الأوروبي يتخذ قرارا غير مسبوق تجاه السياسة التقليدية الخارجية للاتحاد الأوروبي وقامت بتزويد أوكرانيا وهي من خارج دول الإتحاد بالسلاح بشكل علني.
ومنذ بداية الأزمة طلبت بشكل علني أوكرانيا عبر رئيسها وسفيرها في أنقرة بضرورة منع استخدام السفن الحربية والغواصات الروسية لمضيق البوسفور بسبب الهجمات والحرب الروسية على أوكرانيا بموجب اتفاقية مونترو. وتحفظت تركيا في وقتها بسبب أن ما يحدث هو فقط يأتي في إطار النزاع والخلاف بين البلدين وليس حربًا. لكن مع اشتداد الأزمة والهجوم الكبير الذي شنته روسيا على أوكرانيا قامت تركيا بوصف الغزو الروسي بالحرب. واعتبر الرئيس أردوغان الهجوم الروسي على أوكرانيا غير مقبول ووجه انتقادات للغرب والناتو بأنكم تكتفوا فقط بتقديم النصائح وأكد أن تركيا هي عضو في الناتو وكانت ولا تزال تؤدي جميع واجباتها ومهامها كاملة داخل الحلف. وقال أردوغان أننا عازمون على استخدام صلاحياتنا النابعة من اتفاقية مونترو بشكل يحول دون تصعيد الأزمة. واعتبر الهجوم الروسي هو الأوسع والأكبر الذي تشنه دولة ضد أخرى في أوروبا منذ بداية الحرب العالمية الثانية. وقال وزير الخارجية شاويش أوغلو بأن تركيا أبلغت الدول المُطلة والغير مُطلة على البحر الأسود بوقف مرور السفن الحربية عبر مضيق البوسفور في إشارة واضحة بمنع مرور السفن والغواصات الروسية من هذا المضيق.
وأشادت العديد من الدول ومنها أوكرانيا وأمريكا وأوروبا بالموقف التركي الذي أثار حفيظة روسيا حيث لم تتوقع أن تتصرف أنقرة بهذا الشكل دون الترتيبات المُسبقة معها. فالواقع أن الأمر ليس سهلًا بانعكاساته على تركيا من روسيا التي تشكل العلاقة معها أهمية كُبرى بالنسبة للتبادل التجاري الذي يبلُغ حوالي 20 مليار دولار وكذلك التبادل السياحي وشراء منظومة S400 الروسية. حيث أن التقارب الروسي التركي في بعض المحطات كان سببه التناقض الواضح مع أمريكا وأوروبا التي تُدير الظهر لتركيا في العديد من المحطات والمراحل المختلفة. فتاريخيًا حدث حوالي 17 حربًا بين الجمهورية التركية وروسيا الاتحادية.
ولكن منذ تصدر حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم في تركيا عام 2002 ورفع شعار تصفير المشاكل مع دول الجوار والمنطقة وذوبان الجليد في العلاقة بين روسيا وتركيا إلا أن الواقع يشهد تفاهم وتناقض في العلاقة بين البلدين. فعلى سبيل المثال، التناقض في مناطق القوقاز والشرق الأوسط وآسيا الوسطى والبحر الأسود وتتهم أنقرة روسيا وكذلك أمريكا بدعم التنظيمات الإرهابية مثل “ي ب ك/ بي كا كا” وروسيا تعتبر أن تركيا أخلت باتفاقياتها في سوريا وتحديدًا في إدلب لما يمثله الملف السوري من حساسية لروسيا وكذلك ملفات عديدة حدث فيها الخلاف، الملف السوري، الملف الليبي وأخيرًا الملف الأوكراني بعد زيارة الرئيس الأوكراني إلى أنقرة وتوقيعه عدد من الاتفاقيات ضمنها اتفاقيات عسكرية، وكذلك شراء بولندا لطائرات تركيا. فيما تحاول تركيا احتواء التناقض وتعمل في إطار مقاربة التعاون التنافسي بدلًا من الصراع.
وخاصة أن تركيا مقبلة خلال عام على انتخابات عامة فالحسابات الداخلية والسياسة الخارجية تكون بميزان حساس وهي كالذي يمشي على أرض الشوك.
اترك تعليقاً