تراجع الصحافة الفنية والنقدية العربية خطر على الذوق والإبداع!
بقلم الدكتور عمر الفاروق النخال
إعلامي وباحث في مجال الإعلام الجديد والتحوّل الرقمي
يعلن تراجع أو غياب الصحافة الفنية في عالمنا العربي إشارة مقلقة الى غياب الذوق والاهواء والاتجاهات العميقة على مستوى التصفح والمتابعة وانتظار كل جديد يتعلق بهذا العالم السحري نظرا الى ما يحويه من تفاصيل تثير الفضول وحشريات القراء ونظرا الى رغبة قراء هذا النوع من الصحافة المتخصصة في الكشف عن الوجه الاخر لفنانين ونجوم وممثلين ومخرجين وفنانين ورسّامين لم يعتادوا النظر إليهم إلا بالعدسة المنقّحة.
والمقصود هنا الاطلالة المبهرجة التي لا تقول كل شيء عن حياة أهل الفن، واذ بالصحافة الفنية تسد لعقود طويلة هذه الحاجة أو الهواية عند القراء العرب من خلال التحقيقات الصحفية والمقابلات التي تضيئ على جوانب عميقة ولربما دفينة من حياتهم الخاصة والشخصية حتى أن اسرارا خطيرة عن حياتهم لم تكشف للعيان لولا وجود هذه الصحافة التي شكلت بحق منافسا شرسا للصحافة السياسية سواء كانت الاقسام الفنية منضوية في ذات الصحيفة أو المجلة السياسية وسواء كانت ملفا خاصا أو مجلة مستقلة بحد ذاتها وهو الأمر الذي كان أكثر انتشارا في عالمنا العربي طيلة العقود الماضية.
حديث قوة الانتشار والتأثير هو نفسه في الحالتين سواء كانت الاقسام الفنية منضوية في مؤسسة أوسع واشمل أو في هيئتها المستقلة وهذا ما يعطينا اول علامة عن فداحة ذلك الغياب وما أسس له من تراجع الذوقيات ولربما اخذ القارئ العربي باتجاه السياسة حصرا مع جرعات مقننة من الفن والثقافة اما مجتزأة واما مختصرة واما منقولة من مصادر أخرى دون اضفاء العمق والتشويق والشغف الذي طبع تلك الصحافة مهما كان المجال الفني أو الثقافي او الابداعي الذي تقوم بتغطيته.
وتراجع الذوقيات والاهواء ترك ندوبا عديدة على وجه المشهد الثقافي والفني اللذان تحولا غير متشجعين الى الابداع نتيجة غياب “المنصة الورقية” التي ادخلت سحر ما ينتجون ويمثلون ويخرجون ويتنجون ويغنون الى كل بيت والى كل عقل بالاستناد اولا واخيرا على سلاح احترام العقول والمخاطبة برقي يجعلهم لا يقرأون المحتوى فقط وانما يتعمقون بالحالة النقدية الحاضرة حتى يقتنعوا بها أحيانا كثيرة مهما كانت قوة انحيازهم أو تعلقهم أو حبهم للفنان أو الممثل أو النجم أو المخرج أو الممثل الفلانيّ.
تتخطى المسألة هدف الاقتناع بالحالة النقدية لتطال الاقبال على تنويع المعارف فما يقدمه المقال النقدي خدم القارئ العربي لعقود باتجاه توسيع افق تفكيره ونظرته الى المجال الفني في حين أن المقابلة مكنته من الوقوف على الجوانب الاجتماعية والنفسية والانسانية والعائلية المتعلقة باهل الفن فيما عمل التحقيق الفني أو الاستقصائي على اخذ القارئ الى مشوار معرفي أكثر طولا وعمقا ويتصل مباشرة بالعامل التاريخي عبر تمرير تجارب الكبار واسقاطها على الحاضر والمقارنة بين ما أنجزت تلك الفترة الذهبية وما تنتجه التجارب المعاشة آنيًا مع ما تشكله مثل هذه الخطوات من فرض لاحترام ذلك الزمن واعتباره مرجعا اساسا في مقاربة مسائل الفن والغناء والاخراج والانتاج والتمثيل وكل ملحقات المشهد الثقافي تاليا.
تتكامل الأبعاد التاريخية والفكرية والانسانية والاجتماعية والنفسية لانها في هذه الحالة تكون الأبواب التي اذا ما فتحناها بالطريقة العلمية والبحثية الصحيحة فانها الوحيدة القادرة عندئذ على ايصالنا الى الاستنتاجات البناءة التي يمكن خلال خلاصاتها وتوصيتاتها بناء خطة متزنة ومتكاملة ايضا تعيد النهوض بواقع الصحافة الفنية اما لجهة اعادتها شيئا فشيئا الى اقسام ثابتة داخل ما تبقى من صحف ومجلات ورقية أو بدء التشجيع على مجازفة اطلاق الأقسام والهيئات الخاصة لها على طريق استعادة هذه الصحافة الفنية لواقعها في مجلات جديدة ووسائل اعلاميا أكثر وضوحا من الحالة المشتتة لها عبر المواقع الالكترونية وعبر منصات التواصل الاجتماعي.
معها أو بدونها استمر التاريخ واستمرت المحطات والاحداث التي اثرت كل أشكال الصحافة المتخصصة لكن مع الصحافة الفنية تحديدا كانت المناسبات متاحة لأنسنة بعض الاحداث واعطائها احيانا رونقا مخففا رغم ضخامتها أو رغم حملها لعناصر الحزن والتحديات والموت.
كما أن البعد التاريخي برتبط في تاثيراته مباشرة بتطور العامل الفضائحي، حيث حضر بواقع مكتوب غامض في سبعينيات القرن الماضي في الصحافة الفنية العربية ورغم غياب عامل الصورة الموثقة لحقيقة هذه الفضائح الا أنه استطاع رسم مراحل كبيرة معتمدة على مثل تلك الاخبار.
واليوم، ها هي تغريدة الفنان وصوره ومنشوراته غدت هي الخبر فيما تحولت حساباته الرسمية على الشبكة العنكبوتية هي المصدر الوحيد التي يصعب احاطته بالتحليل والاطالة بالمقابلات وطرح التساؤلات وغيرها من الأدوات التي كانت الصحافة الفنية العربية تعتمدها في تناولها لأخبار أهل الفن والمشاهير وهنا يمكن القول أن الفن بات مقتصرا على الفعاليات والخبر الجاف الذي لا يمكن سوى نشره مع عنوان جاذب وبرّاق في أحسن الأحوال.
أمام هذه المشهدية المتراجعة في الوهج وشغف التحليل واتجاهات الجمهور الى الساحة الرقمية اختفت من كشوك الصحافة والأسواق المجلات الفنية الواحدة تلو أخرى ورسمت علامات الاستفهام والتعجب الكثيرة حول نهاية حقبة ذهبية من عمر الصحافة العربية المتخصصة.
اترك تعليقاً