صدقت الرؤيا يا “إسماعيل”
صدقت الرؤيا يا “إسماعيل”
عبدالحليم قنديل
قد لا نزيد فى وداع الشهيد “إسماعيل هنية” رئيس المكتب السياسى لحركة “حماس”عن ما قاله هو بنفسه ، فقد سبق “هنية” قبل كثير من صباح اغتياله الدامى فى طهران ، وقال نصا “أن حركة تقدم قادتها ومؤسسيها شهداء من أجل كرامة شعبنا وأمتنا لن تهزم أبدا، وتزيدها هذه الاستهدافات قوة وصلابة وعزيمة لا تلين ، هذا هو تاريخ المقاومة والحركة بعد اغتيال قادتها ، إنها تكون أشد قوة وإصرارا”.
وقد ننادى “هنية” من وراء حجاب الغياب اليوم ، تأسيا بما نادى رب إبراهيم نبيه فى واقعة الفداء العظيم ، ونقول للشهيد : لقد صدقت الرؤيا يا “إسماعيل” ، فذهابك إلى ربك لا يعنى ذهاب حركة “حماس” من بعدك ، وقد عشت نصف سنواتك الستين ، وأنت ترى ما يتركه استشهاد المؤسسين والقادة على مصير الحركة ، كانت “حماس” بعد كل نوبة استشهاد ، يصعد نجمها ويقوى عودها وتزدهر خبراتها ، وإلى أن افتتحت عصرا جديدا فى تاريخ المقاومة بزلزلة يوم “طوفان الأقصى” ، وعلى نحو لم يكن يحلم به القادة الشهداء الأوائل ، من المؤسس الشيخ المقعد “أحمد ياسين” إلى “عبد العزيز الرنتيسى” إلى “إسماعيل أبو شنب” إلى “عماد عقل” و”يحيى عياش” و”رائد العطار” و”عدنان الغول” و”جمال سليم” و”جمال منصور” و”سعيد صيام” و”محمود أبو هنود” و”أحمد الجعبرى” وغيرهم كثير ، وإلى آلاف القادة والمقاتلين فى “حرب غزة” المتصلة لعشرة شهور إلى اليوم ، وهى الحرب الأطول بإطلاق فى تاريخ الصراع ضد كيان الاحتلال “الإسرائيلى” ، الذى قد يفرح إلى حين بعمليات اغتياله للقادة السياسيين والعسكريين ، لكنه لا يتعلم أبدا من تجارب الدم ، ويعتقد أن اغتيال القادة قد يطفئ شعلة المقاومة ، بينما كان العكس بالضبط هو ما حدث ويحدث ، فلم تنته مقاومة “حزب الله ” باستشهاد الأمين العام المؤسس “عباس الموسوى” ، ولا انتهت مقاومة “الجبهة الشعبية” باغتيال قائدها “أبو على مصطفى” ، ولا انتهت مقاومة “الجهاد الإسلامى” باستشهاد القائد المؤسس “فتحى الشقاقى” ، ولا تأثرت حركة “حماس” سلبا باستشهاد مؤسسيها الأوائل من عقود ، ولا هى تهتز باغتيال القائد “إسماعيل هنية” ، وقد شاءت الأقدار أن تجمع اغتيال “هنية” مع اغتيال قيادى حزب الله “فؤاد شكر” فى ليلة واحدة ، ودون أن يعنى ذلك مع اختلاف الملابسات بين بيروت وطهران ، سوى أن “كيان الاحتلال” قد يكون نجح تكتيكيا ، لكنه هزم ويهزم استراتيجيا فى حرب مفتوحة على أفق مشتعل بالنار والدم والدموع .
“هنية” و”شكر” ، ومن سبقهما ، ومن قد يلحق إلى الرفيق الأعلى ، كلهم من الشهداء الشاهدين معا ، أمانيهم العظمى كانت أن يرزقهم الله بركة الشهادة فى سبيله وسبيل القضية المقدسة ، وكانت سيرهم العطرة شاهدة فى الوقت نفسه على ميلاد ونهوض عصر المقاومة من نوع مختلف ، وقد خلقت من العدم تقريبا قبل ما يزيد على أربعة عقود ، ومن رحم الزمن الأكثر إظلاما بإطلاق فى التاريخ العربى الحديث والمعاصر ، فمن قلب محنة احتلال “بيروت” أواخر عام 1982 وسط صمت وتواطؤ عربى سابغ ، كان الميلاد العفى لظاهرة المقاومة الجديدة ، وكان نسف قاعدة “المارينز” الأمريكى فى بيروت شارة البداية ، وفى عملية استشهادية واحدة عام 1983 ، كان 241 من ضباط ومشاة البحرية الأمريكية قد أرسلوا للجحيم ، ومن وراء المحيطات ، كان الرئيس الأمريكى وقتها “رونالد ريجان” يصرخ من الفزع ، ويأمر بسحب قواته فورا من لبنان ، وكان ما جرى وقتها باكورة لملحمة تواصلت إلى رأس الألفية الثانية ، حين أجبرت قوات الاحتلال “الإسرائيلى” على الخروج من الجنوب اللبنانى ذليلة مدحورة ، ومن دون أن تجد أحدا يوقع لها أو معها اتفاق سلام ولا صك تطبيع ، كانت المقاومة الجديدة تمشى فى الاتجاه المعاكس لخيبات الزمن العربى الأسوأ ، وتهزأ بمعاهدات واتفاقات السلام والاستسلام والتطبيع ، وكان سند المقاومة الجديدة وباعث عنفوانها ظاهرا متحديا ، فقد واجهت جبروت العدو “الإسرائيلى” الأمريكى بما لم يكن فى حسابه ، وأدارت حروبا معه فى لبنان ثم فى “غزة” بمعايير مختلفة ، سحبت متن مقارنات الأسلحة المرئية إلى الهامش الحسابى ، وجعلت الهامش المعنوى متنا جديدا ، وبلورت الفوارق العظمى بين إيمان المقاتلين المقاومين وجبن جنود العدو ، وأدارت سجالا حيا بين قيمة الاستشهاد كأعلى قيمة إنسانية ، واجهت بها طلائع المقاومة الأولى أعظم قيمة تكنولوجية يملكها العدو ، وفيما لم تستطع قيمة العدو التكنولوجية المتفوقة ، أن تكسب جنودها ما يوازى حس الشهادة ، فقد استطاع حس الشهادة بدأب ، أن يكتسب فى الميدان حسا تكنولوجيا متناميا ، وبدأت المقاومة الجديدة تقارع تكنولوجيا واستخباراتيا ، وأحسنت الاستفادة بما قدم لها من “إيران” ومن غيرها ، وأدارت حرب عقول مضافة لذكاء النفوس الاستشهادية ، وحطمت كل استحكامات العدو الاستخباراتية والتكنولوجية صباح 7 أكتوبر 2023 ، وكشفت خواء جيش العدو الذى زعموا أنه لا يقهر ، ثم أدارت وتدير معه حربا مريرة طويلة المدى هى الأكثر شراسة ، ظهرت فيها المعانى العظمى لحس الاستشهاد وحرب عقول أجيال جديدة للمقاومة من نوع مختلف ، وقد برعت على نحو مذهل فى الإعداد للمعركة الجارية عبر خمس حروب مضت ، وأنشأت مدن أنفاق عنكبوتية كاملة تحت أرض “غزة” ، كذا ورش ومصانع للسلاح ، وجعلت من أسماء القادة الشهداء عناوين لأسلحة وقذائف إبداعية تامة الصنع فى “غزة” ، من “ياسين ـ 105” إلى بندقية “الغول” القناصة ، وجعلت من دخول جيش العدو إلى “غزة” جحيما عسكريا ، قتل فيه مئات من ضباط وجنود نخبة العدو وفرقه الأرقى تدريبا وتجهيزا ، وجرى تدمير الآلاف من آلياته ودباباته وناقلات جنده ، وأصيب قادة الجيش المهزوم عسكريا بالجنون ، فهم يصدرون الأوامر بتقدم القوات من الشمال إلى الجنوب فى شريط “غزة” ضيق المساحة إلى حد الاختناق ، وكلما تقدموا أدركوا أنهم يطاردون سرابا ، وأنهم غرقوا فى الرمال والوحل ، فلا شئ ينجزونه عسكريا ، وهم يعودون دائما إلى ذات المواقع التى اجتازوها من قبل ، ويواجهون ذات المقاومة العنيدة التى توهموا أنهم أفنوها ، بينما كل قائد مقاومة يذهب إلى الشهادة ، يتقدم بعده الذى يليه ، وبكتائب مقاومة تتمتع بحرية حركة طليقة من الشمال إلى الجنوب وبالعكس ، ومن تحت الأرض وفوقها ، فى حرب غير متناظرة ، يسكن فيها المقاومون عبر شبكة الأنفاق وتحت الأنقاض ، ولا يمكنون العدو أبدا من نيل أى نصر عسكرى ، وبالذات فى معارك القتال وجها لوجه وفى الكمائن المركبة ، التى بدت فيها فوارق القتال الاحترافى لصالح قوات المقاومة ، فيما استعاض جيش العدو المذعور المرتعب عن فشله العسكرى بجرائم الإبادة الجماعية ، وصب جام نيرانه وقصفه الهمجى على المدنيين الأبرياء العزل ، وتدمير البشر والحجر والشجر ، وإصدار أوامر النزوح للسكان ، الذين نزح أغلبهم فى “غزة” لعشرات المرات حتى اليوم ، وقتل منهم وجرح وفقد ما يزيد على 140 ألفا إلى الآن ، أغلبهم من النساء والأطفال ، ومع كل هذا العذاب الأسطورى للفلسطينيين ، فلم يفلح العدو فى إنجاز هدفه الأصلى بطرد الفلسطينيين إلى خارج أراضيهم المقدسة ، ولا فى القضاء على “حماس” وأخواتها ، الذين تضاعفت أعداد قواتهم بانضمام آلاف من الشباب الفلسطينى المدنى ، الذين يفضلون الاستشهاد بكرامة فى ميادين القتال ، ويعرفون الفارق العظيم بين موت وموت ، فالموت فى قتال العدو أكرم عند الله والناس من الموت تحت أنقاض المبانى ، وهذه هى القيمة الكبرى التى زرعتها المقاومة الجديدة فى نفوس الناس ، وجعلت المقاومة تعبر حصار “غزة” إلى مدن وقرى ومخيمات القدس والضفة الغربية ، وخلقت توائم “غزاوية” مضافة فى “جنين” و”نابلس” و”طولكرم” و”البيرة” و”طوباس” و”الخليل” و”رام الله” وغيرها ، فقد أدرك الناس العاديون أنه لا خلاص بغير المقاومة ، وبما ملكت الأيدى من حجارة أو سلاح ، وكفروا نهائيا بوعود السلام واللبن والعسل واتفاقات “أوسلو” وأخواتها ، وفى غمار هذه الملحمة غير المسبوقة ، تأتى أخبار استشهاد القادة ، لا لتخيف أحدا ، بل ليتقدم القادة البدلاء فورا ، فى تنظيمات جمعت حس الشهادة إلى عبقرية الهياكل ، وقبل شهور ، فرح العدو باغتيال القائد الفلسطينى “صالح العارورى ” فى ضاحية بيروت الجنوبية ، وما هى إلا ساعات ، حتى ظهر بديله “زاهر جبارين” قائدا علنيا لحركة “حماس” فى الضفة الغربية ، وهو ما حدث ويحدث بعد اغتيال “إسماعيل هنية” قبل أيام فى مأمنه بشمال طهران ، وفى الترتيبات العسكرية الجديدة فى “حزب الله” بعد اغتيال القيادى “فؤاد شكر” ، فقد نحزن لاغتيال قيادات المقاومة ، لكن المقاومة نفسها تقوى وتتعزز ولا تهزم أبدا باستشهاد قادتها ، وهو ما عرفه “إسماعيل هنية” حين بادر بالنعى الملهم قبل أوان رحيل كان دائما ينتظره .
اترك تعليقاً