حروب البيجر والووكى توكى
حروب البيجر والووكى توكى
عبدالحليم قنديل
لا نظن أن الجدال سيتوقف قريبا عن عملية تفجير آلاف من أجهزة الاستدعاء “البيجر”وأجهزة الاتصال اللاسلكى “ووكى توكى” التابعة لحزب الله ، فالوقت محجوز للصدمة وربما للذهول ، واحصاء الخسائر البشرية بالآلاف بين شهيد ومصاب ، وعلى اتساع مناطق تواجد “حزب الله” فى لبنان وفى سوريا ، فقد بدت العمليات “الإسرائيلية” التكنولوجية “هوليوودية” بامتياز ، وأظهرت عمق الاختراق المريع لتنظيمات الحزب الأمنية ، ولابد أن قيادة “حزب الله” تدرك فداحة ما جرى ، وما يمكن أن يستجد بعده من ضربات إلكترونية مباغتة ، قد تقعد “حزب الله” عن رد سريع ، فيما يتوارى الشريك والراعى الإيرانى ، ويعجز حتى تاريخه عن رد مكافئ على عملية اغتيال الشهيد “إسماعيل هنية” فى شمال “طهران” ، بينما اكتفى “حزب الله” برد رمزى على عملية اغتيال القيادى “فؤاد شكر” فى ضاحية “بيروت” الجنوبية ، وبرزت وحدها جماعة “الحوثى” اليمنية ، التى ردت على القصف “الإسرائيلى” لميناء “الحديدة” ، وقصفت “تل أبيب” بصاروخ فرط صوتى ، وردها غالبا عبر إيران ، وفشلت كل حوائط الدفاع الجوى الأمريكية و”الإسرائيلية” فى اعتراضه وصده بالوقت المناسب.
ورغم هول المفاجأة الصاعقة ، فقد لا يصح استسهال القفز إلى نتائج متسرعة ، ولا القول أن “حزب الله” انتهى أو أصيب بالشلل ، وإن كان ما جرى يوجب على الحزب إعادة النظر بشبكات تعاملاته فى المنطقة وفى لبنان ، فالحزب يعيش فى بيئة تبدو خيانية ، ممتدة من “إيران” المخترقة “إسرائيليا” وغربيا بالرغم منها ، وهو ما ظهر فى حوادث كثيرة ، بينها اغتيال العلماء النوويين والقادة السياسيين والعسكريين إلى سرقة ونقل الأراشيف الحساسة ، وصولا إلى حادث اغتيال “إسماعيل هنية” فى غرفة نومه ، الذى لا تزال تفاصيله غامضة ، رغم بيانات ملغزة صدرت عن السلطات الإيرانية ، فبرغم كثرة وتداخل أجهزة أمن النظام الإيرانى ، لا تبدو الإنجازات العسكرية والصاروخية والنووية الإيرانية محصنة تماما ، ولا تبدو أجهزة الأمن نفسها عصية على الاختراق ، ربما لتكاتف وتكالب أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية و”الإسرائيلية” وبعض العربية فى العمل بالداخل الإيرانى ، وفى سياق حالة مجتمعية إيرانية عظيمة الهشاشة ، لا يشكل فيها “الفرس” سوى أقل من نصف السكان ، بينما تبدو القوميات الأخرى الإيرانية فى أحول تحفز ، وقد لا تمانع الكثير منها فى عمل أى شئ لتحطيم النظام المنغلق على مذهبيته الشيعية الصارمة وطبعه الفارسى الغالب ، وقد تلعب الشيعية دورا فى تماسك إيران متعددة القوميات موحدة المذهب غالبا ، لكنها لا تقدم ضمانا أكيدا ضد الاختراق الخارجى ، وبالذات مع مظالم تاريخية ثقيلة لحقت بالقوميات غير الفارسية ، نتج عنها تشكيل فصائل تمرد قومى ، يزداد نشاطها فى أحيان ، وتشكل مددا لا يكاد ينفد من المستعدين لتقبل الاختراق الخارجى ، واعتباره عونا لها ضد طغيان سلطة “طهران” ، وربما تقبل العمل الجاسوسى نفسه خدمة للشياطين الكبرى والصغرى ، مع القسوة الدموية المفرطة فى ممارسات النظام ، وعجزه عن مجاراة مطالب النساء والشباب والفئات ذات الحس الليبرالى ، مع ضوائق اقتصادية واجتماعية متفاقمة ، تحتدم اختناقاتها مع آلاف العقوبات الأمريكية والغربية على النظام ، الذى نجح فى تطوير صناعة عسكرية بالذات ، وفى صور من التحايل والالتفاف الذكى على العقوبات ، لكنه ظل قاصرا عن الوفاء بوعوده الكبرى ، رغم تمتع إيران بمراد طبيعية وثروات طاقة هائلة ، وتلك كلها موارد لأوضاع قلقة ، يسهل معها تجنيد الجواسيس فى البيئة الإيرانية ، مع إدمان عادات “التقية” ، التى زحفت من مجال العادات المذهبية إلى الممارسات السياسية والأمنية ، وإذا أضفنا لذلك كله ، ما هو معلوم من التفوق التكنولوجى للغرب المعادى ، وبضمنه “إسرائيل” طبعا ، نجد أن الخرق الأمنى فى إيران يتسع على الراتقين ، وتصدمنا حالات الانكشاف ، التى تواترت وتضاعفت دواعيها مع الزحف الإيرانى غربا إلى ساحات عربية محطمة ، من العراق إلى سوريا وإلى لبنان حيث “حزب الله” ، ولبنان تاريخيا ساحة خطرة ، ونظامه السياسى الطائفى لا يبنى دولة ، بل هو أقرب لشراكة بين متشاكسين ، ولكل طائفة كبرى أو صغرى سهم معلوم ، ولكل طائفة جغرافيا تخصها وخطوط تماس مع الآخرين ، وقد كان لبنان دائما ساحة مثالية لعمل أجهزة المخابرات الكبرى والصغرى ، وثمة جماعات وأحزاب لبنانية عملت وتعمل فى خدمة الكيان “الإسرائيلى” ، رغم أن قانون “الدولة” يحرم ويجرم كل اتصال بكيان العدو ، لكن عملاء “إسرائيل” فى لبنان أكثر من الهم على القلب ، وإن كانوا يتخفون بخدمتهم للعدو وراء ستار كثيف من العداوة لحزب الله ، وكراهة التضخم العسكرى للحزب ، وتحكمه كما يقولون بقرار الحرب والسلم ، وكما يوجد أصدقاء لحزب الله من كافة الطوائف اللبنانية ، فإن جماعات المتربصين تبدو أكثر ، ولا يتخفون ولا يخجلون من تعاونهم العلنى المباشر مع أصدقاء ورعاة “إسرائيل” الغربيين والعرب ، وفى هذه البيئة الداخلية الملغومة يعمل حزب الله ، وقد بذل الحزب جهدا مضنيا لحماية أسراره وسلاحه ، وأنشأ جهاز اتصالات يخصه منفصلا عن الشبكة اللبنانية العامة ، تماما كما تفعل الجيوش المحترفة ، لكن بيئة الاختراق الخارجى وصلت على ما يبدو إلى شبكته الخاصة التى كانت مؤمنة .
ولا يعنى ما جرى من اختراق شبكة اتصالات “حزب الله” ، أن كل شئ صار مستباحا ومكشوفا داخل الحزب ، وإن كان المعنى ، أن المخاطر تعاظمت ، وأنه قد يكون على الحزب اليوم ، أن يحمى أسراره الداخلية من أصدقائه كما من الأعداء ، وفى عملية تفجير أجهزة “البيجر” ، تبدو صور التورط متعددة ، من أول الشركة المصنعة للأجهزة ، التى قيل أنها من “تايوان” ، وتنصلت من جرم تفخيخ الأجهزة بقنابل صغيرة جدا ، ورمت التهمة المحتملة على وكيل أوروبى ، ولكن بقية السلسلة الطويلة ظلت ملتبسة ، وفيها احتمالات لمشاركة جهات تجارية صديقة ، ولتقصير مفزع من داخل “حزب الله” نفسه ، من الذين استلموا الأجهزة الموبوءة دون فحص كاف ، والذين نقلوا “الشيفرات” وكلمات المرور لأجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية” ، والله وحده يعلم كم شيئا آخر نقلوا أسراره ؟، وفى سياق حرب متصلة على الحدود بين “حزب الله” وكيان الاحتلال ، أثبت فيها “حزب الله” إخلاصه لمبدأ وحدة ساحات المقاومة ، وتتدحرج عناصرالحرب اليوم إلى معنى آخر ، يكاد يستبدل أدوار الساحات بعد العام الأول ، ويحول حرب إسناد خاضها “حزب الله” إلى جبهة الحرب الأساسية ، بينما قد تتحول جبهة “غزة” إلى معنى الإسناد ، وهو ما يظهر فى خرائط توزيع وانتقالات جيش الاحتلال اليوم ، والدفع بالثقل العسكرى الأكبر من جنوب الكيان إلى شماله ، وهو ما قد يعنى ببساطة أن الدور قد يجئ على “حزب الله” ، الذى لا تجوز الاستهانة بقوته ، ولا بسوابق أعماله المضيئة فى حروب المقاومة ضد كيان الاحتلال ، الذى حاول تجنب الدخول فى حرب شاملة مفتوحة مع “حزب الله” ، واستعاض عنها كثيرا بعمليات الاغتيال وحروب الاختراق الالكترونى ، لكن حروب التكنولوجيا مهما تعاظمت ، لن تحسم نزاعا فوق الأرض ولا تحتها ، وعند لحظة الصدام والقتال المتلاحم ، قد لا تجدى أساطير التفوق التكنولوجى ، وهو ما بدا ظاهرا فى سيرة حرب “غزة” ، فلم ينجح السلاح الأمريكى “الإسرائيلى” المتفوق فى شئ ، إلا فى ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية للبشر والحجر والشجر ، وإلى جوار العذاب الأسطورى للناس فى “غزة” ، برزت البسالة والعناد الأسطورى لحركة “حماس” وأخواتها ، وحرمت العدو الأمريكى “الإسرائيلى” من تحقيق أهدافه المعلنة والمخفية حتى اليوم ، ولم تستطع الحملة البربرية الوحشية ، ولا مئات آلاف أطنان المتفجرات ، لم يستطع السلاح ، ولا استطاعت التكنولوجيا الحربية الأكثر تفوقا ، أن تهزم حركات المقاومة فى “غزة” ، وهى المحاصرة المحجوبة عن تلقى أى عون ، لكنها استطاعت إذلال جيش الاحتلال ، ودفعته للغرق فى رمال وأوحال وأنقاض وأنفاق “غزة” ، وبصورة جعلت القائد الإسرائيلى السابق لما يسمى “فرقة غزة” يعترف بالحقيقة ، ويعلن أن “حماس” هى التى انتصرت عسكريا فى القتال ، وأن كل مدينة يغادرها الاحتلال ، تعود إلى سيطرة “حماس” فى غضون ربع ساعة ، ونثق أن ما فعلته “حماس” فى “غزة” ، سوف يفعله حزب الله فى حرب لبنان حين يبدأ الغزو البرى “الإسرائيلى” ، فلدى الحزب قوات وأسلحة وصواريخ وأنفاق وخبرات قتال أكبر بمراحل ، ولدى “حزب الله” مقدرة أعظم على تحدى فجوات التكنولوجيا ، وبوسع “حزب الله” مع تطهير بيئته الداخلية والمحيطة ، أن يهزم كيان الاحتلال بالروح الاستشهادية وبكفاءة القتال وجها لوجه ، حتى وإن خسر الحزب كما جرى حروبا مخابراتية وسيبرانية وإلكترونية ، وأصيب باختراقات مؤثرة فى عاموده الفقرى ، كان للأصدقاء فيها دورا أخطر من أدوار الأعداء الظاهرين .
اترك تعليقاً