الإهلاك المعرفي ومحو التعلم مهارات نجاح المتعلمين في المستقبل
أ . د /عبداللطيف عبدالقادر علي أبوبكر
” إذا أطلقت نيران مسدسك على الماضي ، صوب المستقبل نيران مدافعه عليك ” ، كلمة حكيمة لرسول محمدوف تنبيك أن الماضي بكل تداعياته ، يظل رصيدا مذخورا يحمل في طياته بذور التحول للراغبين في الوقوف على أعتاب المستقبل ، وطرق أبوابه ، والمشاركة في رسم صورته والتنبؤ بمآلاته ، وكما قيل : ” فإن أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي المشاركة في صنعه “. على أن بونا شاسعا وفرقا واسعا يظل يحكم الإنسان في مسيره ومصيره ، ويقود اختياراته وقراراته في التمييز بين ثوابت الماضي التي تبدو أمرا لابد منه ، وواقعا لا غنى عنه، ومن ثم لا يسعه أن يحيد عنه ، وبين ما يمكنه تطويره ، أو التخلي عنه لما هو أفضل منه ، وهنا لا ينبغي أن نختصم بشأن الماضي بقدر ما نريد أن نصطلح بشأن المستقبل ؛ لأننا – شئنا أم أبينا – سنظل نستلم الماضي ، ونعايش الحاضر ، ونستشرف المستقبل .
تضخم المعلومات والتخمة المعرفية :
ونظرا لما يتسم به عصرنا من تسارع في نمو المعلومات وتضاعف المعارف ، حتى بتنا أمام ما يعرف بعصر المعلومات ، أو الانفجار المعرفي ، أو تخمة المعلومات
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا .. هل يمكن للعقل البشري أن يحتوى ظاهرة الانفجار المعرفي، وهل أمسى ضروريا ـ كما ينادي البعض ـ تحديث أدوات هذا العقل إلى حد إمكان مؤازرته بوسائل إلكترونية تزيد من سعة ذاكرته ومن سرعة اتخاذ قراراته والوصول إلى أفضل الحلول وأصدق النتائج
( نبيل علي : تكنولوجيا المعلومات وتطور العلم من منظور الثقافة العلمية ، كتاب العربي “مجلة العربي” وزارة الإعلام – دولة الكويت )
ويشير مفهوم التخمة المعرفية إلى أن التحصيل المعرفي لقضية ما يصبح أكبر من القدر المطلوب من المعرفة للشخص المعني بالمعرفة ، وهى من الظواهر التي انطلقت متزامنة مع عصر توفر المعلومات في يسر عبر الوسائط الإلكترونية. وتشير بعض الإحصاءات إلى أن المعلومات العامة تتضاعف كل سنتين ونصف تقريبا مما يؤدي إلى فقدان النقد والتحليل حيث إن تخمة المعلومات وطريقة العرض لا تتيح الفرصة لوضعها في ميزان التقييم أو معارضتها ( ويكيبديا ، 2016 ، 1 – 3 ) .
لعل خير تشبيه للتخمة المعرفية ما نراه ونلاحظه في ظاهرة ( الأوبن بوفيه ) فغالبًا ما يكتظ ( البوفيه ) بأنواع من الأطعمة غير المتجانسة ولهذا يفترض على من يرغب في الأكل أن يكون واعيًا باحتياجه ومقدار الطعام المناسب لحاله
وبالمثل تنشأ حالة من التخمة المعرفية للإنسان المحب للمعرفة، فحب المعرفة شهوة مثل شهوة الطعام، إن لم ينضبط صاحبها سيصاب بالتخمة المعرفية وهي حالة شبيهة بالتخمة التي تصيب من يسرف في الطعام من نوع واحد أو يتناول كثيرا من الأطعمة غير المتجانسة ( كمال سليم: التخمة المعرفية المرصد الفكري ، فبراير 2015 )
وهي الحالة التي تتلبس الشخص في محاولته معرفة كل شيء إلى أن يصل إلى ألا يعرف شيئًا ، كما يقول علي عزت بيجوفيتش في هذا المضمار : إن القراءة المبالغ فيها لا تجعلنا أذكياء” ؛ لأن القضية تتوقف على دراية الإنسان بحالة وقدر ما يحتاج إليه من معرفة. وكيفية الهضم الجيد للأفكار وإعادة إنتاجها في أنساق معرفية جديدة تلائم احتياجات الواقع لا اجترار المعارف القديمة دون هضم ولا تأمل
الإهلاك المعرفي ومحو التعلم :
يقول “رونالد ملزاك”: قد يأتى اليوم فى المستقبل القريب الذى نستطيع فيه السيطرة على الحزم الخمس الأساسية التى تنقل الأحاسيس من الجسم إلى الدماغ عن طريق الحبل العصبى، بحيث نتحكم فى تخصصات هذه الحزم المنيرة، فنشطب من نبضاتها ما نشاء، ونمحو من ملخصاتها ما نريد، ثم نبعث من خلالها بمعلومات جديدة (عبدالمحسن صالح، مستقبل المخ ومصير الإنسان ص 134، 135) .
في عرضه لعناصر الدورة الكاملة لاكتساب المعرفة ، يؤكد نبيل علي في عملية إنتاج المعرفة مجموعة من المهام ، تبدأ بتوليد المعرفة الجديدة ، ثم يركز على مهمة إهلاك المعرفة القديمة: ويعني بها التخلص من المعرفة القديمة وإحلالها بأخرى أكثر حداثة، وتتزايد أهمية عملية الإهلاك المعرفي مع تسارع معدل إنتاجها والاحتفاظ بالمعارف القديمة يخلق نوعا من الفوضى في نظم تخزينها، “تلوثا معرفيا” إن جاز التعبير ( نبيل علي : الإنترنت ونقل المعرفة في الوطن العربي )
فالمتعلم، أياً كان عمره ومركزه، لابد له في بعض الأحيان أن يمحو ما لديه من تعلم في موضوع ما، حتى يسمح لعقله ووجدانه أن يتقبل تعلماً جديداً، مثل الفلاح الذي يقتلع النباتات القديمة حتى يزرع نباتات جديدة ، لابد أن نترك سريعاً عاداتنا القديمة وما تعودنا عليه حتى نسمح لعقلنا باستيعاب وتعلم الجديد، لا أن نقيد أنفسنا بأيدينا، فمحو التعلم يتطلب الانفتاح على معارف ومهارات واتجاهات جديدة
يقول الفيلسوف الإغريقي «زينون»: «إن أهم جزء في التعلم هو محو التعلم»، ويمكن اعتبار محو التعلم بمثابة نسيان العادات القديمة، ومن ثم تعلم عادات جديدة، فهناك ارتباط بين محو (أو نسيان) التعلم، وبين إعادة التعلم، فنحن نمحو أو ننسى شيئاً بغرض تهيئة المناخ وخلق مساحة لتعلم شيء آخر، وقد يتم ذلك بطريقة تلقائية من دون أن نلاحظ ، ولكن إذا لاحظنا هاتين العمليتين وأدركنا أننا نقوم بهما فتحدث العملية بسرعة وفعالية أكبر
يحتل هذا الموضوع حيزاً كبيراً في أبحاث التعلم في الغرب، يقول المفكر الكبير «جاك أولدريش»: «إن القدرة على محو التعلم ستكون أهم مهارة مطلوبة لدى الأشخاص الراغبين في النجاح مستقبلاً»، وهي وجهة نظر منطقية إذا ربطناها بإدارة التغيير لأن تقبل وتبني التغيير يتطلبان نبذ العادات والمعتقدات القديمة حتى ينفتح الذهن والوجدان للتغيير، وإلا فكيف سيحدث التغيير ونحن لا نرى أن هناك حاجة إليه وأن ما نعرفه هو الأفضل وهو ما يجب التمسك به ( علاء جراد : محو التعلم ، جريدة الإمارات اليوم ، 26 يناير 2015)
في وقت أصبحت قوة الأمم إنما تقاس بقدرتها على الاستجابة للتغيرات ، بل وإحداث هذه التغيرات إن تطلب الأمر ودعت الضرورة لذلك ، وكما قيل : إن التمسك بالقديم لمجرد قدمه كالدجاجة التي ترقد على بيض مسلوق ” إن حالة التصلب الذهني التي تصيب الأفراد والمجتمعات ، تقف حجابا حاجزا ، وحجر عثرة يحول دون سرعة الاستجابة لإيقاع الحياة العنيف ومجاراة ما يشغي به العالم من أحداث ستقود بعض المتعلمين إلى الانسحاب من ” مارثون ” التنافس المحموم ، والاكتفاء برفع شعار : ” أوقفوا هذا العالم ، نريد أن ننزل !!!!!!
‘
اترك تعليقاً