التربية الإعلامية القوة الناعمة في المشهد التربوي المعاصر

التربية الإعلامية القوة الناعمة في المشهد التربوي المعاصر

    أ . د. عبداللطيف عبدالقادر علي أبوبكر– أستاذ جامعي

« أعلى صوتاً من القنابل » عبارة عالية النبرة ، حادة اللهجة ، جاءت عنوانا لأحد مؤلفات الكاتب الغربي  ديفيد بارساميان ، جالت بخاطري وأنا  ارجع البصر كرتين في مفردات المشهد التربوي وقواه الناعمة ، ودار في خلدي حالة الفصام النكد بين التربية من جهة والإعلام من جهة أخرى ، والتأثير الذي يحدثه الإعلام في أبنائنا الطلاب بل وفي أفراد المجتمع قاطبة.

خاطبني أحد طلابي ذات يوم : إذا كان الإعلام يمارس عمله فنحن أيضا نؤدي دورنا ، وكأنه يلمح لي أن في مقدورنا في مؤسسات التعليم أن نقلم أظفار الإعلام ، أو نوقف زحفه ونحد من تأثيره ، على طريقة أبي العلاء المعري :

                   أرى العنقاء تكبر أن تصادا … فعاند من تطيق له عنادا

فابتدرته بقولي : يا بني ، إن ما تبنيه مؤسسه تربوية في أعوام يمكن أن تهدمه وسيلة إعلامية في أيام  ، خاصة إذا كانت تلك الوسيلة تهدم ، فما أسهل الهدم مقابل البناء !!!! بل إنه يشوق ويروق لمن يقوم به – أعني الهدم – في كثير من الأحايين ، وقديما قال الشاعر :

                  وللقبح وقت فيه يحسن مدحه … ويحمد من غش البناء لدى الهدم

وكما أن الهدم سهل وميسور فهو أيضا سريع جدا مقابل البناء ، كما قيل :

                   ولو ألف بان خلفهم هادم لكفى .. فكيف ببان خلفه ألف هادم

وقديما قيل : من شجرة واحدة تصنع مليون عود كبريت، ومن عود كبريت واحد تحرق مليون شجرة ، لكن ما يذيب القلب حسرة هو أن عود الكبريت الذي يحرق الأشجار كان يوما من الأيام جزءا منها ،  ومن قبل تألمت الشجرة لمن هم بقطعها  ، فكان  ما يؤلم الشجرة ليس الفأس  التي تقطعها ، بل ما يؤلمها حقاً هو أن يد الفاس التي تقطعها صنعت من تلك الشجرة ، وهو ما لم يكن متوقعا من الإعلام الذي كان ينبغي أن يكون ردءا للتعليم خاصة وهما على صعيد اللغة من جذر واحد وأرومة واحدة ، خاصة إذا كان مقررا لدينا أن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة .

فالإعلام مصدر الفعل الرباعي ” اعلم ” ، ومجرد الثلاثي ( علم ) ، ومن مشتقات مادة ( ع . ل . م ) أعلام ، إعلام ، ومعلم ، وعالم ، ومعلوم ، ومعلومات ، واستعلم ، والعالمين ، والتعليم ، ويعني الإعلام في اللغة : الإخبار والإنباء ، والتعليم ، والإعلام بالشيء إظهار حقيقته ، ونقل العلم به إلى الآخرين .

ومن ثم كلما تقدمنا خطوة للأمام  يرجعنا في مقابلها خطوات الإعلام الهدام ، فلا تقوم للبناء قائمة ، أو يصل إلى مرحلة التمام في يوم من الأيام … وأنى لنا ذلك !!! ، وقديما قال الشاعر العربي

                متى يبلغ البنيان يوما تمامه … إذا كان ما تبنيه غيرك يهدمه ؟

ما الحل إذا ؟؟؟ الحل أن نمتلك – بصفتنا تربويين – ما يمتلكه الإعلاميون من عوامل الجذب والتشويق والتأثير في أبنائنا الطلاب . الحل أن نبحث عن مساحات الالتقاء ، ونقاط التماس ، والأرضية المشتركة التى تجمعنا مع الإعلاميين على صعيد واحد في مجابهة الأخطار التي تتهدد أمتنا ، وتستهدف مجتمعاتنا ، وفي القلب منها الطلاب ، الحل أن نعيد التساؤل القديم المتجدد : ماذا يريد التربويون من الإعلاميين ؟ والذي ورد عنوانا لإحدى الندوات مع نهايات القرن المنصرم ، وتوالت بعده العناوين مثل : الإعلام والتربية . هل كل يغني على ليلاه ؟ وغيرها وغيرها كثير

إشكالية المصطلح بين الإعلام التربوي والتربية الإعلامية :

” إذا أردت أن تحدثني فعرف ما تقول أولا ” كلمة حكيمة قالها  أحد المفكرين تقودنا للسير قدما صوب تحرير المفاهيم  وفك الغموض في إشكالية المصطلح بين احتياج العلم واجتياح العولمة في فوضى المصطلحات ، في وقت تتجه فيه كثير من الدوائر العلمية لصك مفاهيم وحفر مصطلحات ، ومحاولة تمريرها إلينا وفرضها علينا بكل ما تحمله من مضامين قيمية ، وما تشي به من قناعات أيدولوجية وموروثات ثقافية لدى أصحابها .                                                                                

إذا كان قصارى الأمر مع الإعلام التربوي هو توظيف وسائل الإعلام لإيصال الرسالة التربوية ، فإن التربية الإعلامية تعني تعليم وسائل الإعلام وأساليبها من أجل توظيفها في المجال التربوي، ويقصد بذلك التثقيف الإعلامي سواء للطالب أو الأساتذة أو الأسرة والمجتمع بشكل عام  بالإعلام وكيف العمل في مجالاته والطرق التي تتبع من أجل الوصول إلى الوعي بحيث يكون قادراً على التعامل مع وسائل الإعلام بأسلوب انتقائي يمكنه من فرز الجيد من الردئ. ومن ثم  نحن في حاجة إلى شيء من محو الأمية الإعلامية على كل الأصعدة ، سواء في المدرسة أو في الأسرة أو المجتمع ، على حد تعبير ” فلاديمير جاى” الخبير الدولي الفرنسي من أصل روسي  فى وسائل الإعلام وتعليمها ، ومع انتشار القنوات الفضائية، وأيضاً مجيء الإنترنت كوسيلة اتصالية متنوعة، وبالتالي أصبح من الصعوبة بمكان الآن التحكم في وسائل الإعلام ، و باتت التربية الإعلامية هي الخيار الوحيد                                                                   

نحن الآن ومع تحقيق الثورة التقنية الهائلة في وسائل الاتصال ، أصبحت تلك الوسائل تدخل حتى في العملية التعليمية وفي وقت من الأوقات كان هناك نوع من التنافر بين وسائل الإعلام والتربية. وأعتقد الآن أن المجالين قد اقتربا وينبغي أن يقتربا حتى يفيد كل منهما الآخر، والمؤسسات التعليمية في حاجة إلى أن تعلم طلابها وطالباتها كيفية التعامل مع وسائل وكيفية توظيف وسائل الاتصال في العملية التعليمية                                                                                    

وقد لا نغالي إذا قلنا بأننا نعيش اليوم مرحلة الدولة الإعلامية الواحدة التي ألغت الحدود ، و أزالت السدود ، واختزلت المسافات و الأزمان ، و اختصرت التاريخ ، و تكاد تلغي الجغرافيا ، حتى بات الإنسان يرى العالم و يسمعه من مقعده ، و لم يقتصر الأمر على اختراق الحدود السياسية ، و السدود الأمنية ، و إنما بدأ يتجاوزه إلى إلغاء الحدود الثقافية ، و يتدخل في الخصائص النفسية ، و تشكيل القطاعات العقدية ، فيعيد بناءها و فق الخطط المرسومة لصاحب الخطاب الأكثر تأثيراً  و البيان الأكثر سحراً ، و التحكم الأكثر تقنية هذا وتشترك التربية والإعلام في الأهداف العامة وفي أسلوب تحقيق تلك الأهداف، وبعيداً عن التفاصيل الدقيقة لأهداف كل منهما نلحظ أن التربية والإعلام يهدفان إلى إيصال المعلومة إلى المتلقي باستخدام وسائل اتصال متشابهة، فعملية الاتصال في الجانبين لا تعدو كونها نقل رسالة من مرسل إلى متلق بوسيلة ما. وإذا أردنا الدخول في بعض التفاصيل نجد أن الاختلاف والخلاف بين التربية والإعلام يكمنان في الأهداف التفصيلية حيث تحدد الأهداف التفصيلية في التربية السلوك المطلوب بأسلوب يمكن قياسه، في حين لا يرى الإعلاميون أهمية تذكر لهذا الأسلوب، وفي وسيلة نقل المعلومة حيث يتجاوز الإعلام حدود المهنجية إن صح التعبير في نقل المعلومة. فالإعلام لا يتقيد بمنهجية معينة وإن كان ينهج سياسة محدودة، والإعلام لا يخاطب فئة معينة من جمهوره ولا يشترط كذلك مستوى معيناً من الثقافة أو العمر أو الجنس فهو كما وصفه حمود البدر (1414هـ) بالحصان الجامح الذي يتعذر على التربية والتعليم مجاراته، ولكن لا يتعذر عليهما الاستفادة من إمكاناته التقنية في نقل المعلومة، خصوصا ونحن نعيش في عصر ثورة المعلومات وفي عصر التقنية التي تسهل عملية جمعها وتدفقها واسترجاعها، وفي هذا الصدد يقول فتح الباب وزملاؤه “وهكذا أصبحت إذاعة العلم وانتشار الفن وذيوع الأدب غير مقصورة على مصاحبة العالم، وحضور قاعات الدارس، ولا محدودة بمجال الرواية وإلقاء الشعر في المحافل والمنتديات، والأسواق كما كان في القرون الأولى، ولم يقتنع العلماء ولا رجال الإعلام ببث الكلمة عبر موجات الأثير، ومن خلال المذياع، ولم يكتفوا بالمطبوعات حيث تخرج الماكينات آلاف النسخ في ساعات قليلة، تنقلها الطائرات وتنشرها في أرجاء العالم, بل أصبحت المعلومة والفكرة الأدبية والنفحة الجمالية، تصل إلى الناس جميعاً لك ولي، في بيتك بطرق متنوعة مطبوعة أو مسموعة أو مرئية، سلكيا، أو لاسلكيا، بضغط الأزرار أو إدارة المفاتيح وغيرها من التقنيات في عصر الكمبيوتر والإنترنت”.

    إذاً تلقي المعلومة لم يعد مقصورا على المدرس والمدرسة والكتاب المدرسي والتجارب المعملية، أو حتى الوسائل التوضيحية البدائية، وبالتالي لم تعد التربية مسئولية المنزل والمدرسة والمسجد، فقد أفرد الإعلام دوراً فاعلا في تشكيل شخصية الطفل ، وقد سمح الإعلام لنفسه بمباركة من أوكلت إليهم أمور تربية النشء أن يكون عنصرا فاعلا في هذه المهمة، ولم يعد التمترس خلف الصيحات المدوية والمحذرة من الغزو الفكري مجدياً في نزع هذا الحق الذي فرضه الإعلام على مخطط التربية في العالم العربي على وجه الخصوص.

شارك هذا المنشور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.