الأميّة الأكاديميّة… بين التّعليم والتّجهيل

الأميّة الأكاديميّة… بين التّعليم والتّجهيل

د.ندين أبوحمدان

د.أ.م في الجامعة اللّبنانيّة – معهد العلوم الاجتماعيّة

في مرحلة سابقة لما شهدته المجتمعات العربيّة من حراك سياسي وأزمات اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة وأمنيّة في العقد الأخير، كانت ظاهرة الأميّة الأبجديّة لا تزال حاضرة بين ظواهر عديدة أخرى تسم هذه المجتمعات بسمات التّخلّف، ولم تسمح الصّراعات الحاصلة في هذا العقد من مكافحة الأميّة كما يلزم، نظرًا لما استتبعته من مشكلات اقتصاديّة وماليّة وتربويّة وغيرها.

عرّفت منظمة اليونيسكو بداية الأمّيّة بالتّالي: “يعتبر أمّيًّا كل شخص لا يجيد القراءة والكتابة”، ثم غيّرته ليصبح “الشّخص غير الأمّي هو الشّخص القادر على قراءة وكتابة وفهم نص بسيط وقصير يدور حول الوقائع ذات العلاقة المباشرة بحياته اليوميّة”، ثمّ تبنّت التّعريف التّالي: “يعتبر ليس أمّيًّا كل شخص اكتسب المعلومات والقدرات الضّروريّة لممارسة جميع النّشاطات الّتي تكون فيها الألفبائيّة ضروريّة لكي يلعب دوره بفعاليّة في جماعته وحقّق في تعلّم القراءة والكتابة والحساب نتائج تسمح له بمتابعة توظيف هذه القدرات في خدمة نموّه الشّخصي ونموّ الجماعة، كما يسمح له بالمشاركة النّاشطة في حياة بلده”.(دياب، منى حسن، 2022) وقد صنّفت منظّمة اليونسكو العالميّة المنطقة العربيّة كأضعف مناطق العالم في مكافحة الأمّيّة، وأنّه في حال استمرّ النّسق التّعليمي الحالي في مكافحة الأمّيّة، فإن العالم العربي لن يكون قادرًا على تحقيق التّعليم الأساسي للجميع قبل عام 2050، فيما يعزو العديد من المحلّلين استمرار هذه الظاهرة في الدّول العربيّة إلى غياب الإرادة السّياسيّة في إصلاح قطاع التّعليم وضعف تمويله والبطء في عمليّة تطوير المناهج الدّراسيّة والفقر، إضافة إلى غياب الرّغبة في التّعلم وضعف تدريب الكوادر التّعليميّة.(لماذا تنتشر الأمّيّة في العالم العربي؟، 2013) انطلاقًا من هذه الأسباب للأمّيّة في مجتمعاتنا العربيّة وتحديدًا السّببين الأخيرين وربطًا بمضمون التّعريف الأخير لمنظّمة اليونيسكو والمذكور أعلاه، نطرح مصطلح الأميّة الأكاديميّة، إذ أنّ منهم من ينطبق عليهم ضعف تدريب وتطوير مهاراتهم كأكاديميين وعدم متابعة توظيف قدراتهم في نمو المجتمع والمشاركة الناشطة في حياة مجتمعهم.

يشير الدّكتور علي وطفة في كتابه “الأمّيّة الأكاديميّة في الفضاء الجامعي العربي” إلى أنّ الأميّة متجّذرة في البنية الاجتماعيّة والثقافيّة للمجتمعات العربيّة، وتساهم في استمراريّة تخلّفها وتؤسّس لكل أشكال الأميّة الأخرى وتكرّس بالتّالي كل أشكال التّخلّف في المجتمع. (وطفة، علي أسعد، 2021) إذا كان التّعليم يمحو الجهل، فالأمّيّة الأكاديميّة تحوّل التّعليم إلى عمليّة تجهيل وتسطيح للمعرفة العلميّة. نلحظ في المؤسّسات الأكاديميّة همًّا طاغيًّا لدى المتعلّمين حول كيفيّة طرح أسئلة الامتحان وكيفيّة الإجابة للحصول على علامة نجاح في المواد الدّراسيّة أكثر من الهمّ المعرفي والبحث عن المعلومة، ما يشير إلى أنّ جل ما يطمح إليه المتعلّم هو النّجاح للحصول على الشّهادة العلميّة، فالعلم بالنّسبة إليه وسيلة وليس وسيلة وغاية في آن معًا. هذا التّصوّر لا يقتصر فقط على المتعلّم بل المعلّم الأكاديمي، لانّه متجذّر في بنية التّصوّرات المجتمعيّة في عالمنا العربي، فبعض الأكاديميّين يقاطعون قراءة أي كتاب أو الاطّلاع على أي دراسة علميّة منذ حصولهم على شهادة التّخصّص الجامعيّة. كما يستخدم بعضهم ومع مرور سنوات من العمل في القطاع التّعليمي مفاهيمًا بشكل خاطئ وفي غير سياقها، علمًا أنّها في صلب تخصّصه، والبعض ليس لديه الجرأة لتخطّي المعلومة المكتسبة أو المذكورة في كتاب المادّة التّعليميّة نتيجة لضعف ثقته بقدرته على تقديم أي إضافة علميّة فرديّة أو موقف علمي نقدي. منهم قد حفظوا بقوالب جاهزة في التّعليم المدرسي أو الجامعي وامتُحِنوا في مسارهم التّعليمي بقواعد ونظريّات ومفاهيم تخصّصهم العلمي، ثمّ عادوا ليُلقوها ويلقنّوها في صفوفهم وقاعاتهم الدّراسيّة من دون القدرة على تطويعها واستثمارها في المعطيات الواقعيّة المجتمعيّة المستجدّة في مجتمعات متغيّرة، ما يعيق استثمار المعرفة العلميّة في تنمية المجتمع وتحديثه، كَون انفصلت معرفة الأكاديميّين عن الواقع وانعزلت معرفيًّا. إذا كانوا في إطار تخصّصهم اكتسبوا هذه المفاهيم والنّظريات من خلال سياقها التّاريخي الاجتماعي الاقتصادي السّياسي العلمي، فعليهم عدم استهلاكها وكأنّ المجتمعات في حالة ثبات، وكأنّ العلم له منطق قائم بذاته وكأنّه بحالة جمود، من دون استثمارها وتطويرها أو الإضافة العلميّة إليها. إن لم يكن هناك إنتاج معرفي ثقافي علمي، سيبقى الأمّيّون الأكاديميّون في حال من الببغائيّة العلميّة، بذلك تستمر المؤسّسات التّعليميّة وأكاديميّوها بالاعتماد على النّقل وليس على العقل. في إطار بعض التّوجّهات التّحديثيّة الإصلاحيّة في مجال التّعليم وطرائقه ومضامينه، تلجأ هذه المؤسّسات إلى القيام بورش عمل ودورات تدريب وتأهيل للأكاديميّين العاملين فيها، تتزيّن هذه الإصلاحات بمظاهر حديثة من دون تعديلات جوهريّة بالمضامين وتبقى ذهنيّة الأكاديمي محرّكًا لممارسة دوره التّلقيني السّلطوي في إطار العمليّة التّعليميّة وأدائه المهني. نلحظ التّصوّر السّائد بما يخص التّعليم باعتباره بابًا للوظيفة والمركز والدّخل والهيبة الاجتماعيّة، وهو من أبرز مقوّمات العيش والبقاء، لكنّ التّطوّرات العلميّة والابتكارات العالميّة تسير بوتيرة سريعة وبروح تنافسيّة عالميّة، فلا ضمانة لدخل مستدام ولا مقوّمات للاستمرار من دون مواكبة التّخصّص لمجريات العصر وخوض غمار المعرفة العلميّة المتنوّعة. التّعليم الّذي يكسب المتعلّم المعرفة العلميّة، ـيتعطّل دوره في حال عدم تغذيتها وإحيائها وتنشيطها من خلال الثقافة العلميّة والعامّة المتعدّدة الأروقة. إذًا التّشبيك المعرفي العلمي هو حاجة ملحّة للتّعليم المنتج وللإنتاج العلمي وتعزيز الحسّ النّقدي لدى الأكاديميّين وبالتّالي للمتعلّمين، وإلّا يكون التّعليم قد أُفرغ من مضمونه الهادف للتّغيير في المجتمع والمساهم في تقدّمه. قد بدأ المسار التّغييري في بنية التّعليم وتحديدًا الجامعي وأدرجت ضمن متطلّبات التّخصّصات العلميّة في التّعليم الجامعي الأكاديمي والبحثي طروحات فتح المسارات العلميّة والتّخصّصات البينيّة وتداخل الأنظمة العلميّة. فمثلاً، ما قبل كوفيد- 19 كان الأكاديمي المتخصّص بغير التّكنولوجيا وعلوم الكومبيوتر، يعتبر نفسه غير معني بهذه المعرفة العلميّة، لكن في ظل العصر الرّقمي لا يمكن لأي تخصّص الانعزال عن أدوات هذا العصر وإلاّ فقد جزءًا من رصيده. هذا التّحوّل أجبر المتخصّص في العلوم الإنسانيّة والرّياضيّات والأدب… الانخراط في هذا العصر الرّقمي بكل مكوّناته. لذلك كي يستثمر التّخصّص لا يمكن القطع المعرفي مع مجريات الواقع وظروفه ومستجدّاته. فمن كان مثلا متخصّصًا في السّياسة منكفئًا عن الاطّلاع على تغيّر الأنظمة السّياسيّة في العالم والتّعديلات الحقوقيّة والتّشريعيّة المواكبة للتّغيّر ودور الإعلام في مواكبة هذا التّغيّر… سيصبح منفصلاً معرفيًّا عن الواقع الرّاهن. إذا اكتسب السّوسيولوجي مفهومًا اجتماعيًّا أو نظريّة اجتماعيّة نتاج مرحلة تاريخيّة معيّنة بكل مجرياتها الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة… وعزلهما معرفيًّا من دون استثمارهما في معطيات جديدة، فلا لزوم لدراستهما لأنّ زمانهما قد ولّى، فالمثقف الأكاديمي عليه استثمار معرفته العلميّة من خلال الرّبط بين النّظرية والواقع المتغيّر وإلّا تصبح المعرفة العلميّة قطعيّة انعزاليّة، ويصبح المتعلّم المتخصّص أمّيًّا، وإنعاش ما تعلّمه يتم من خلال تعميق المعرفة العلميّة وليس تسطيحها للخروج من دائرة الجهل عبر المطالعة المستمرّة المتنوّعة الشّاملة والمتعدّدة التّخصّصات، ما يشكّل الرّكيزة الأساسيّة لتغذية الحسّ النّقدي التّحليلي، وإنتاج حبكة علميّة تبرز خروج المتعلّم من دائرة الأمّيّة الأكاديميّة. قد استشهد د.وطفة بقـول ابـن قتيبـة: “لا يـزال المـرء عالمـًا مـا دام في طلـب العلـم، فـإذا ظـنّ أنّـه قـد علـم فقد بـدأ جهلـه.” (وطفة، علي أسعد، 2021، صفحة 127) وبقول عميـد الأدب العربي طه حسين، لحظـة حصوله على شـهادة الدّكتـوراه: “الآن بـدأت” لإظهار أهميّة الاستمرار في البحث عن المعرفة العلميّة. الجمود التّعليمي التّعلّمي، لا يمكن أن ينتج تغييرًا وتجديدًا وتحديثًا ودينامية في المجتمع. قـد تناول المفكـر المغـربي محمـد عابـد الجابـري هـذه المشكلة برؤية نقديّـة، مشيرًا إلى زيـف المثقّفين العـرب وقصورهـم المعرفي وانصرافهـم عـن الممارسـة النّقديّة الحـرّة للثقافة في كتابـه “تكوين العقل العربي”. نجد أكاديميّين مثقّفين يدركون دورهم التّنويري، يغوصون في تخصّصاتهم العلميّة، يتجوّلون في تخصّصات أخرى، ومنهم من لا يعنيه أي معرفة خارج إطار تخصّصه، لكنّ الأمّيّة الأكاديميّة سمة من لا يكون عارفًا حتّى بتخصّصه، لا يواكب أي مستجدّات علميّة تطرأ عليه. هو ناقل سلبي للمعرفة غير فاعل فيها، ملقّنًا لها، مقولبًا للمتعلّمين، فجهل الأكاديمي في ميدان تخصّصه وتصلبّه بظل مرونة المعرفة والعلم وديناميّتهما يجعله أكاديميًّا غير مثقّف. هذه السلبيّة المعرفيّة الأكاديميّة، تؤسّس لتجهيل المتعلّم وإضعاف قدرته على القراءة والكتابة والفهم للوقائع ذات العلاقة المباشرة بحياته اليوميّة من خلال تسطيح التّعليم، كما تضعف إمكانيّة متابعة توظيف قدراته في خدمة نموّه الشّخصي ونموّ الجماعة وتعيق مشاركته النّاشطة في حياة بلده، بالتّالي ينتج التّعليم تجهيلا. يقول بهذا الصّدد أكرم جلال كريم في مقاله حول صناعة التّجهيل “إنّ الوقوف أمام الحالة المتردّية الّتي أصابت مؤسّسات التّعليم عمومًا والجامعات على وجه الخصوص وفقدان البوصلة، هو وقوف أمام أحد أعمدة الجهل المصنّع، وهو تجهيل أُعدّ بعناية وشارك في إنتاجه وتمريره أناسٌ قفزوا إلى مجال التّعليم ومواقع اتّخاذ القرارات المصيريّة في غفلة من الزّمن، فحوّلوا المناخ التّعليمي إلى مناخ حالك وأرض جرداء، لا تنمو فيها بساتين العلم والفكر والمعرفة”. (كريم، أكرم جلال، 2020) (بتصرّف)

من هنا لا بدّ من إعادة النّظر في المنظومة التّعليميّة وتحرير مؤسّساتها من أي تدخّلات سياسيّة استنسابيّة،  وزيادة الإنفاق المنتج على كل مكوّناتها وتطوير مناهج التّعليم ووضع معايير للعمل الأكاديمي، إضافة إلى تعزيز التّعاون وتشكيل حلقات جماعيّة نقاشيّة حواريّة بحثيّة نقديّة على مستوى الأكاديمييّن وعلى مستوى المتعلّمين، سعيًا لمكافحة الأمّيّة الأكاديميّة والخروج من دائرة التّجهيل نحو التّعليم.

 

شارك هذا المنشور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.