الانقلابات في افريقيا وعسكرة الديمقراطية هل تصنع الانقلابات العسكرية مقاربة إفريقيا للأفارقة ؟

الانقلابات في افريقيا وعسكرة الديمقراطية هل تصنع الانقلابات العسكرية مقاربة إفريقيا للأفارقة ؟

بقلم: سامية بن يحي باحثة جزائرية في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

مما لا جدال عليه  تَظهر حمى الانقلابات العسكرية الأخيرة  في افريقيا على أنها الميزة النمطية التي  توشك أن تستقر عليها القارة السمراء منذ عقود  قد تُفهم من حيث العودة إلى التاريخ أنها امتداد للتركة الاستعمارية في قالب ما يسمى بتصفية الاستعمار الجديد والتدخل الأجنبي-اذا سلمنا بمقاربة التبعية الاستعمارية- أو بمثابة استمرار للصراع  السياسي داخل الدول الهشة من أجل الاستلاء على السلطة ( علاقة الجيش بالسلطة) إذ يتم تسويق مقاربة عسكرة الديمقراطية لصنع ديمقراطية افريقية( لا تفرضها الاملاءات الغربية) ومقاربة افريقيا للأفارقة( الخطاب السياسي للنخب السياسية الجديدة) في خضم هذه العلاقة يتم استخدام  مفاهيم ((Concepts إضفاء الشرعية( legitimize ) للعسكر، ونزع الشرعية  (delegitimation) عن الحاكم أو صانع القرار، ثم إعادة الشرعية في ظل غياب الأدوار الإقليمية والدولية في فرض معايير دولية صارمة تمنع حدوث  مثل هذه الانقلابات، حيث نجادل  في هذا المقال مدى قدرة الانقلابات العسكرية على بناء الديمقراطية في افريقيا أم أنها مفهوم مائع مفتوح للتلاعب و صورة  مستترة لتكريس الأنظمة الديكتاتورية.

أولا: الأسباب الكامنة وراء الانقلابات

 العوامل التاريخية: تشكل السياقات والعوامل التاريخية التي لا تزال تطارد بناء الدولة في إفريقيا  أحد الأسباب التي  ترتبط بالتراث الاستعماري والصراع بين الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتي سابقا والموروث الغربي خاصة الأوروبي متمثلة في الاستعمار الفرنسي والبريطاني، فالنخب الجديدة توجه اتهاماتها لهذه الدول رغم انتهاء حقبة الاستعمار إلا أنها لا تزال في  وجهة نظرها تستنزف القارة السمراء، وتساهم بشكل غير مباشر في دعم الانقلابات للحفاظ على مصالحها، وذلك عبر تكريس أنظمة سياسية موالية تحاول إرساء ديمقراطية قسرية بأجندة غربية في هذه الدول تعتمد الأنظمة فيها بشكل كبير على الدعم الخارجي، بما في ذلك المساعدات العسكرية والاقتصادية، من أجل ضمان بقائها.

العوامل الاقتصادية: إن الأنظمة الاستبدادية في افريقيا مسؤولة عن أكثر من 75% من الصراعات في القارة، والهجرة القسرية، والأزمات الغذائية، وبالتالي هدر الموارد الطبيعية،و سوء الإدارة، وانعدام الأمن الغذائي يزيد من خطر المجاعة وسوء التغذية بالنسبة للفئات السكانية الأكثر ضعفا، والافتقار إلى تنمية حقيقية  مما يؤدي إلى انخفاظ معدلات النمو الاقتصادي، من جهة ضعف  المساعدات التنموية المقدمة من طرف الغرب، والفساد، وسرقة الموارد كلها أفرزت مناخا خصبا لتغذية الانقلابات التي تكون محصلة حاصل استجابة جذرية لوضع اقتصادي غير مستقر، وقد شهد عام 2022، تباطؤ النمو الاقتصادي في المنطقة وصل إلى 3.6% بعد أن كان 4.1% في عام 2021، ومن المتوقع أن يتباطأ أكثر إلى 3.1%  مع نهاية عام 2023 ومن المتوقع أيضا أن يصل معدل نمو دخل الفرد إلى 1.2% في عام 2024 و1.4% في عام 2025  حسب تقرير البنك الدولي 2022 من جهة تضاعف الدين العام في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بأكثر من ثلاثة أضعاف منذ عام 2010 مع اتساع العجز المالي في المنطقة إلى 5.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022 مقارنة بـ 4.8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021  وقد أدت جائحة كوفيد-19 والصدمات الخارجية الأخرى إلى تفاقم هذه المشكلةأكثر.

العوامل السياسية: يؤدي ضعف أنظمة الحكم  في الدول الإفريقية  الهشة  التي تقوم بانتهاكات دستورية بعيدة عن الديمقراطية مثل التزوير الانتخابي و انتهاكات مستمرة لحقوق الانسان و عجزها خاصة عن مكافحة ومنع الصراعات المتمثلة في التهديدات العرقية والجماعات الإرهابية و غياب أو ضعف أداء الآليات الدستورية في دولة ديمقراطية مثل الفصل بين السلطات والضوابط والتوازنات، والقضاء المستقل، ووسائل الإعلام الحرة والفضاء المدني المفتوح مع المجتمع المدني المستقل من جهة فشلها في إقامة ديمقراطية مدنية مستقرة إلى قيام المؤسسة العسكرية بالانقلاب على السلطة، ومن هنا تُفهم الاستيلاءات العسكرية على أنها سياسة تستخدم الأسلحة لتغيير الحكومات بالقوة بدلا من الحملات الانتخابية والتصويت  للانتقال من نظام سياسي إلى آخر، و على سبيل المثال، مهدت الانتفاضة الشعبية التي استمرت شهرين بسبب الانتخابات التشريعية المتنازع عليها الطريق للانقلاب في مالي في عام 2020 وفي ظل التمرد الجهادي أشار المجلس العسكري إلى الوضع الأمني الهش في البلاد لتبرير تصرفاته، وعندما وقع انقلاب في بوركينا فاسو في جانفي/ يناير 2022 ومرة أخرى في سبتمبر/أيلول في وقت لاحق من ذلك العام قال الجيش إن هذه الخطوة كانت مبررة بسبب تآكل الأمن، و قبل انقلاب عام 2021 في غينيا تزايدت التوترات الداخلية داخل الجهاز الأمني بالتزامن مع المظالم الموجهة إلى الرئيس بشأن الانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان وتآكل الأعراف الديمقراطية، والحكومات الفاسدة، كما أن أشكال القمع تخنق حقوق الإنسان والتعبير الديمقراطي.

العوامل الاجتماعية: شهدت إفريقيا بشكل عام مستويات ومعدلات قياسية للفقر  والجوع والبطالة والهجرة  بسبب الجفاف والمناخ  وغياب التنمية الاقصادية بالاظافة إلى الحروب والصراعات الداخلية والاقليمية في القارة، فحسب توقعات المحاصيل وحالة الغذاء- التقرير العالمي الربع سنوي رقم 1، مارس/آذار 2023 – لمنظمة الفاو تشير تقديرات المنظمة إلى أن 45 بلداً، من بينها 33 في إفريقيا بحاجة إلى مساعدات خارجية من أجل الغذاء وأن أكثر من 20 في المائة من سكان القارة الإفريقية (حوالي 257 مليون شخص) يعانون من نقص التغذية، وبالتالي  إفريقيا تتحمل العبء الأكبر من سوء التغذية (حسب تقرير منظمة الأغذية والزراعة) كما تشير توقعات البنك الدولي(2023) الخاصة بالفقر الكلي في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى أن ظروف النمو لا تزال غير كافية للحد من الفقر المدقع وتعزيز الرخاء المشترك على المدى المتوسط إلى الطويل، حيث لا تزال السياسات الإفريقية غير كافية لتسريع جهود الحد من الفقر إلى المسار الذي كانت عليه المنطقة قبل الوباء، وفيما يتعلق بمستويات الفقر في المنطقة فإن ما يقرب من واحد من كل ثلاثة أفارقة (28.57٪ ) يعيشون على أقل من 2.15 دولار أمريكي في اليوم، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 8.25  أي 6 بالمائة، كما بلغت معدلات البطالة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى 6.75 بالمئة عام 2022 حسب تقرير البنك الدولي 2022،  أما معدلات الهجرة  نجد 20 دولة إفريقية ذات أعلى معدلات الهجرة الصافية حتى عام 2022 حيث بلغ  معدل الهجرة الصافي للقارة الإفريقية بأكملها في عام 2022  -0.369 لكل 1000 نسمة، في حين هناك زيادة في هجرة الأفارقة داخل إفريقيا زادت  بنسبة 49.6% مقارنة بـ 29% من الأفارقة المهاجرين إلى أوروبا، وقدر العدد الإجمالي للمهاجرين الأفارقة بنهاية عام 2020 بنحو 40.6 مليونًا.

التنافس الدولي وسياسة الاستقطاب – لعبة المصالح

لطالما كان ينظر إلى الجيش كمؤسسة مهمة لحماية الدولة من التهديدات الخارجية، لكن قد تشكل المؤسسات العسكرية أيضًا مخاطر أمنية على حكوماتها نظرًا  لقدرتها على استخدام القوة القسرية، حيث تصبح سلاحا موجها ليس للعدو الخارجي وإنما للدولة ذاتها خاصة في الدول الإفريقية الهشة- غرب إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى- التي تعاني من المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادي وهذا بدوره يعطي فرصة للقوى الأجنبية تغذية الانقلابات كلما ساعد ذلك في تعزيز مصالحها، وعلى إثر هذه الخلفية قد تفشل المنظمات الإقليمية في منع حدوث  التدخلات العسكرية بل تعجز حتى عن فرض معايير للتفاوض مع قادة الانقلاب، وتكتفي بفرض عقوبات وأحيانا التلويح بإمكانية التدخل و بذلك فالانقلابات العسكرية تسلط الضوء على الدروس الواضحة بالفعل حول كيفية تحسين الجهود الدولية لبناء الديمقراطية والسلام.

إن لعبة شد الحبل التي يشارك فيها أطراف خارجية لدعم مصالحها من طرف مجموعة من الدول خاصة فرنسا و روسيا  والصين وأمريكا، حيث دعمت موسكو الجيش في السودان، سعيا منها لدعم مصالح روسيا في ممر البحر الأحمر، والعمل على دعم  مشاريع التجارة كتجارة الماس و الذهب غرب السودان و مالي، بالإضافة إلى مشاريع أخرى في جمهورية إفريقيا الوسطى، كما كان لروسيا أيضا دور في مالي بشكل كبير عندما قام النظام العسكري الحالي بتوظيف عناصر من مجموعة فاغنر، ومن المتوقع  مستقبلا أن يتسارع اهتمام روسيا بإفريقيا من خلال تعزيز علاقاتها الدبلوماسية مع دول افريقية خاصة بعد حربها ضد أوكرانيا وصراعها مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وزيادة التجارة وتقليل تأثير العقوبات، وقد  استطاعت روسيا  أن تدفع بخطاب مناهض للاستعمار في إفريقيا وقدمت نفسها على أنها قوة غير استعمارية،كما أنه من شأن إنشاء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر أن يعزز قدرة روسيا على دعم عمليات مسلحة باستخدام مجموعة فاغنر التي تنشط في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي مما يزيد من قدرتها على زعزعة الاستقرار،وإعادة بناء قوتها.

في زاوية أخرى كثيرا ما توجه أصابع الاتهام لفرنسا على أن لها يد في بعض الانقلابات خاصة مع مستعمراتها السابقة في غرب إفريقيا، وبذلك لا يمكن استبعاد التدخل الأجنبي في بعض هذه الانقلابات سواء بدعم قادة الانقلاب أو محاولة الاطاحة بهم، و تتمتع فرنسا بتاريخ طويل في غرب إفريقيا كقوة استعمارية إلى غاية عام 1960 و بعد  الاستقلال حافظت فرنسا على ووجودها العسكري في المنطقة عبر احتفاظها بقواعد عسكرية دائمة في العديد من مستعمراتها السابقة،  والذي يعد جزءًا من استراتيجية النفوذ السياسي الفرنسي والأوروبي بشكل عام الأمر الذي أدى إلى توترات طويلة الأمد ويبدو الآن- بعد ماحدث في النيجر وبوركينافاسو، والغابون- أنها وصلت إلى آفاق جديدة، وهو ما يؤكد عليه انسحاب القوات الفرنسية  الأخير من مالي عام 2022 ومن بوركينا فاسو عام 2023 عقب الإنقلابات العسكرية التي شهدتها الدولتين، فعلاقات فرنسا التاريخية مع غرب إفريقيا تضعها على الخطوط الأمامية في مواجهة السكان الذين يعانون إما من تدهور حاد في الأمن أو من عدم المساواة الاقتصادية والتنموية الكبيرة جعل معظم عامة الناس الذين يرفضون جميع أشكال الوجود الفرنسي، وقد ركزت الاستجابات الدولية لأزمات الساحل بقيادة فرنسا والولايات المتحدة والأمم المتحدة  في المقام الأول على مكافحة الإرهاب المسلح مثل عملية برخان التي نفذتها فرنسا، وهو النهج الذي أدى إلى انتشار أعمال العنف والهجرة وزعزعة الاستقرار، ومن الناحية العسكرية تم رفض حجة فرنسا بأنها تحتفظ بوجودها فقط لمساعدة البلدان في غرب أفريقيا.

بالمقابل تحاول تركيا أن يكون لها نفوذ في إفريقيا خاصة بعد تجربتها في ليبيا، فقد أصبحت أنقرة بالفعل مزودًا مهمًا لأنظمة الأسلحة والتدريب العسكري بينما تعمل الشركات التركية في الوقت نفسه على إنشاء بنية تجارية لنشاط التصنيع المتكامل الذي يمتد من المغرب الأوسط إلى ساحل غرب إفريقيا،  وباعتبارها منطقة داخلية ضمن هذا الهيكل، فإن دول الساحل غير الساحلية في النيجر ومالي وبوركينا فاسو تمثل تحديات وفرصًا لتطوير الصناعة العسكرية التركية في غرب إفريقيا خاصة بعد استيلاء الجيش على الحكم.

تعتبر الولايات المتحدة لاعبا مؤثرا في المنطقة إلا أن الانقلابات الأخيرة التي شهدتها القارة الإفريقية  كانت فرصة حاسمة لمراجعة سياسة أمريكا واستراتيجياتها في الحفاظ على المصالح الأمريكية والإفريقية والعمل على استقرار المنطقة، حيث تسعى الولايات المتحدة الأمريكية لحماية مصالحها ونفوذها في معظم مناطق العالم، ولا شك أن إفريقيا أصبحت منطقة تنافس استراتيجية بين مجموعة من الدول الكبرى مع الولايات المتحدة الأمريكية- على غرار الصين وروسيا وفرنسا والهند و تركيا – لم تغفل عنها أمريكا رغم تراجع نفوذها في الآونة الأخيرة خاصة بعد أزمة كورونا والحرب الروسية الأكرانية، حيث تعد الولايات المتحدة أكبر مانح ثنائي للمساعدات التنموية الخارجية للقارة الإفريقية، وضمن  استراتيجية الولايات المتحدة تجاه منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا( أوت/ أغسطس/ 2022) تؤكد على تحقيق أربعة أهداف في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بالتنسيق مع حلفاء وشركاء أمريكا في المنطقة وفي جميع أنحاء العالم، وكذلك مع المؤسسات الإقليمية والعالمية لتحسين وإعادة الاستثمار في أدوات الدفاع الأمريكية: أولها تعزيز الانفتاح والمجتمعات، فالمجتمعات المفتوحة عموماً أكثر ميلاً إلى العمل من أجل قضية مشتركة مع الولايات المتحدة، واجتذاب قدر أكبر من التجارة والاستثمارات الأمريكية وانتهاج سياسات لتحسين ظروف مواطنيها ومواجهة الأنشطة التي تمارسها جمهورية الصين الشعبية وروسيا وغيرهما من الجهات الفاعلة الأجنبية، فالجيوش وغيرها من قوات الأمن الفعالة والشرعية والخاضعة للمساءلة ضرورية لدعم المجتمعات المفتوحة والديمقراطية المرنة لمواجهة التهديدات المزعزعة للاستقرار بما في ذلك في إفريقيا، وسوف تقوم أمريكا بمراجعة وإعادة الاستثمار فيها، ثانيها الاستمرار في الابتكار، واعتماد مناهج مخصصة، وتشجيع الشركات الأمريكية على زيادة استثماراتها وشراكاتها، ودعم مناهج التنمية المستدامة بيئيًا والتي تعزز الأمن الغذائي وتبني الاندماج الاجتماعي والمساواة بين الجنسين، أما ثالها العدالة التي تقلل من الهشاشة وتخفف من الصراعات، وممارسة المسؤولية المالية، وآخرها القيام بدور قيادي في تنسيق وتسلسل أنشطة التنمية الإنسانية والاقتصادية التي تقدمها الجهات المانحة، وقد صرح الرئيس جو بايدن في قمة الاتحاد الأفريقي فبراير 2021   بأن أمريكا تؤمن بالدول الإفريقية و بروح ريادة الأعمال والابتكار المنتشرة على مستوى القارة، ومن خلال التحديات المقبلة على الرغم من أنها كبيرة ليس هناك شك في أن دولنا وشعوبنا والاتحاد الإفريقي على مستوى هذه المهمة.

يمكن القول أن الانقلابات الأخيرة ستعكس تغيرات جيوسياسية في المستقبل القريب خاصة في غرب إفريقيا تؤكد على تراجع نفوذ فرنسا وحرصها على عدم فقدان حلفاء في المنطقة خاصة بعد الانقلاب الأخير في الغابون مقابل تصاعد نفوذ الصين وروسيا وأمريكا، تركيا، الهند، اسرائيل، وأمريكا.

ثانيا: أبعاد الانقلابات في إفريقيا هل يصنع العسكر الديمقراطية؟

استطاعت المدرسة الفكرية المناهضة للاستعمار التي ظهرت منذ بداية القرن إلى تغيير مفاهيم النخب والناشطين السياسيين الأفارقة الذين قوضو مصداقية القيم الأوروبية و الديمقراطية الليبرالية؛ هذا ما أفرز قيما مغايرة تدافع عن مفاهيم ومبادئ جديدة تدعو لها النخب والشعوب في القارة الإفريقية خاصة مستعمرات فرنسا بعد محاولة هذه الدول الاستعمارية في فرض أجندتها العسكرسة والسياسية والاقتصادية ولعلى ماحدث في النيجر وبوركينافاسو أكبر دليل، ومن هنا طفت شعارات إفريقيا للأفارقة و لا لديمقراطية على مقاسات الغرب، ومناهضة كل أشكال التواجد الفرنسي ، فقد كان أبرز منتقدي السياسة الفرنسية في إفريقيا يزعمون أنهم من أنصار القومية الإفريقية مما يجعلنا نبحث في أبعاد الانقلابات العسكرية ومدى قدرتها على تجسيد ديمقراطية جديدة من شأنها إخراج الدول الهشة في إفريقيا من عنق الزجاجة، أم أنه حجة ليكون الجيش وصيا على عملية الإصلاح السياسي، وبالتالي تكريس نظام عسكري مستبد.

إن الرجوع إلى تاريخ معظم الدول الإفريقية المستعمرة رغم استقلالها إلا أنها لم تتحرر من سيطرة الدول المستعمرة، حيث تم بناء هذه الدول لتبقى خاضعة لها وهذا ما يفسر هشاشة الأنظمة التي كثيرا ما كانت موالية ولا تعكس إرادة شعوبها، و لهذا فقد واجهت منطقة غرب إفريقيا تحديات هائلة في سعيها إلى إرساء الديمقراطية خاصة مع تزايد الصراعات السياسية و الجماعات الإرهابية في المنطقة.

في هذا الصدد جادل سلطان كاكوبا -أستاذ العلوم السياسية في جامعة كيامبوجو في أوغندا- أن  القارة الإفريقية خطت خطوة إلى الأمام في التحول نحو الديمقراطية، لكن الانقلابات دفعتها إلى الوراء، فمن ناحية تعتبر المؤسسة العسكرية القوية أكثر فعالية في منع التحول إلى الديمقراطية، ومن ناحية أخرى، فإنه يتطلب إما تنازلات أكبر من جانب النخبة أو زيادة خطر استيلاء الجيش على السلطة، و بمجرد حدوث التحول إلى الديمقراطية يشكل الجيش القوي تهديدًا بالانقلاب على النظام الديمقراطي الناشئ حتى يتم إصلاح الجيش، والحقيقة أن توقع إصلاح المؤسسة العسكرية في المستقبل يشكل دافعاً مركزياً لها للقيام بانقلابات ضد الحكومات الديمقراطية وبشكل خاص، تكون الأنظمة الديمقراطية أكثر عرضة للخطر عندما لا تكون قوية بالقدر الكافي لإصلاح المؤسسة العسكرية على الفور، ولكنها أيضاً غير قادرة على الالتزام بتقديم تنازلات وعدم إصلاح المؤسسة العسكرية (لتقليل قوتها) في المستقبل.

يؤكد المحلل السياسي التشادي جونديو لاديبا وجوزيف ساني من معهد السلام الأمريكي، على فرضية تحول الجيش إلى وصي على عملية الاصلاح السياسي وبدل أن يرافق عملية التحول الديمقراطي يؤدي دورا معاكسا فتسييس الشرطة وعسكرة السياسة يؤدي إلى تآكل احترافية قطاع الأمن على سبيل المثال سمح المجلس العسكري الحاكم بعقد مؤتمر “للحوار الوطني” في عام 2022  في تشاد بهدف توجيه عملية الانتقال إلى الديمقراطية لكن قام الضباط الحاكمين بقمع المعارضة ومنحوا  كل الإشارات لمحاولة الحفاظ على حكمهم إلى أجل غير مسمى، لذا لا تزال تشاد تواجه عمليات تمرد في أقصى الشمال والجنوب، و كل من هذين التأثيرين يزيد من احتمالية ظهور الأنظمة العسكرية بعد فترات ديمقراطية قصيرة  بالإضافة إلى ذلك، يؤدي تزايد عدم المساواة إلى تفاقم مشكلة الخطر الأخلاقي السياسي في الأنظمة غير الديمقراطية، مما يخلق قناة أخرى لظهور الدكتاتوريات العسكرية مثل ماحدث في السودان، أين دفعت الاحتجاجات الحاشدة في عام 2019 ضباط الجيش إلى الإطاحة بالحكم الاستبدادي للجنرال عمر البشير والانضمام إلى النشطاء المدنيين في التحول نحو الديمقراطية المنتخبة، ثم أطاحوا بهذا الانتقال بعد عامين من جهة أدى أيضا الاستهزاء بالعمليات الانتخابية وتعديلات الدستور لتمديد حدود الولاية من قبل القادة الذين يسعون إلى التشبث بالسلطة إلى زيادة الدعم الشعبي للجيش للاستيلاء على السلطة في غينيا (2021) بينما تقدم النخب الفرنسية  تفسيرا للانقلابات في المنطقة على أنها حركة استبدادية وشعبوية جديدة معادية لفرنسا  والديمقراطية الليبرالية، وتؤكد أن الظهور الكبير لهذه الانقلابات يحجب التراجع في الديمقراطية الذي يحدث في العديد من دول غرب إفريقيا وترى أن الذرائع الداخلية (“الإسلاموية”، “الأوضاع الاقتصادية”، “التدهور الأمني”، “التوترات الطائفية”، إلخ) والذرائع الخارجية (“رفض فرنسا”، “الاستسلام للإيكواس”، “التوترات الإقليمية”، إلخ) هي أدوات سياسية فعالة من حيث التكلفة على المدى القصير للغاية نظرا للحماسة الشعبوية وعدم اليقين المحيط بالأزمة المتعددة القطاعات في منطقة الساحل والتي تتصاعد في جميع أنحاء المنطقة بالمقابل يؤكد قادة الانقلاب خاصة في النيجر أن تولي النخب العسكرية للسلطة في هذه البلدان الفقيرة والغنية بالمعادن مبررًا باعتباره جهدًا من جانبهم لإنهاء العلاقات الاستعمارية الجديدة الاستغلالية مع فرنسا.

كما تبين المناقشات التي استعرضها محللو معهد الولايات المتحدة للسلام أن ريع الموارد الطبيعية قد يؤدي أيضًا إلى تغذية الانقلابات العسكرية ضد الديمقراطيات الناشئة، على الرغم من أن لها عمومًا تأثيرات غامضة فقط على التوازن السياسي في البلدان غير الديمقراطية، إذ أن في المجتمعات الوفيرة بالموارد الطبيعية تسيطر على السياسة في سياق نظام غير ديمقراطي، ويصبح النظام الديمقراطي أكثر قيمة بالنسبة للنخبة، ولكن الحفاظ عليه أكثر تكلفة بسبب مشكلة الخطر الأخلاقي السياسي الأكثر خطورة والتي تنجم عن ارتفاع ريوع الموارد الطبيعية.

ومع أن الكونجرس الأمريكي  في ديسمبر 2022، أجرى تغييرين على المادة 7008 الأول يسمح باستخدام المساعدة المقيدة “لدعم التحول الديمقراطي” سيشمل ذلك تحولات مصممة بعناية أكبر نحو ديمقراطيات فعالة بدلاً من التسرع في كثير من الأحيان في جدولة انتخابات سريعة بعد الانقلاب والتي من شأنها أن تخبئ في الحكومة القادمة نفس العيوب التي قوضت الحكومة السابقة(كما يؤكد جوزيف ساني من معهد الولايات المتحدة للسلام) فمن الممكن أن تعمل “الحوارات الوطنية” الواسعة النطاق على تعزيز تلك التحولات، إلا أنه قد تؤدي الانقلابات العسكرية أيضًا إلى إضعاف الجهود المشتركة التي تبذلها دول الساحل لتأمين منطقتها ضد الجماعات المتطرفة العنيفة المرتبطة بتنظيمي القاعدة وداعش وهذا يهدد بتقويض التعاون العسكري في الحرب ضد الإرهاب في جميع أنحاء منطقة الساحل، وقد يؤدي إلى تفاقم حالة انعدام الأمن التي ساعدت في إشعال شرارة الانقلابات في المقام الأول، ولعل من بين الأسباب التي أدت إلى فشل العديد من التحولات في مرحلة ما بعد الانقلاب، والتي لم تؤدي إلا إلى المزيد من عدم الاستقرار هو افتقارها إلى آلية لتحويل طبيعة الحكم، فما الذي يمكن أن يطلق مثل هذه المهمة في بلدان غارقة لسنوات في الحكم الفاسد من قبل النخب ولصالحهم؟ وتشكل بوركينا فاسو مثالاً على ذلك، حيث حكمها لأكثر من 50 عاماً من أصل 62 عاماً  جنرالات الجيش الذين استولوا على السلطة بالقوة.

إن مثل هذه المناقشات الآنفة الذكر تجعلنا نجادل ما إذا كانت هذه الانقلابات مجرد حالة تأثير  تنسكب إلى تجسيد حقيقي للديمقراطية بعيدا عن خدمة المصالح الأجنبية، واذا كان كذلك فماهي الحلول التي من شأنها الوصول إلى بناء حصن ديمقراطي في تلك الدول؟

ثالثا: استراتيجيات منع الانقلابات

غالبا ما تؤدي الانقلابات إلى تآكل المكاسب الديمقراطية لأي بلد مما يؤدي إلى تقدم حالة من التراجع الديمقراطي بدلاً من التقدم إذا لم تتم معالجة الأسباب الكامنة وراء الانقلابات بشكل متعمد وفعال، فسوف تستمر الانقلابات في القارة وفيما يلي بعض الحلول التي أشار إليها جوزيف ساني وإينا ديون من معهد الولايات المتحدة للسلام وبعضها استقيناها من استراتيجية أمريكا موحدة طويلة الأجل لدعم مطالب الأفارقة المتكررة ونضالاتهم الشجاعة لبناء ديمقراطيات مستقرة وخاضعة للمساءلة شملت تسع دول منها سبع ودوا إفريقية.

  • ينبغي للاتحاد الإفريقي أن يلتزم بمعاييره المناهضة للانقلابات من خلال تطبيق المادة 25 من الميثاق الأفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم من خلال فرض عقوبات وإحالة مرتكبي الانقلابات إلى المحاكمة دون استثناء.
  • ينبغي للمجموعات الاقتصادية الإقليمية أن تدين تمديد حدود الولاية خاصة المجموعات الاقتصادية الإقليمية الإفريقية (RECs) و برلمان اللجنة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) و مجموعة تنمية الجنوب الأفريقي (SADC) والجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا (ECCAS).
  • ينبغي على الدول الإفريقية تحسين مؤسسات الحكم والرقابة، فيتعين على الحكومات الإفريقية أن تعمل على تعزيز الحكم من خلال تحسين تحصيل الإيرادات والتخطيط الفعال وصنع السياسات والتنفيذ.
  • تعزيز المجتمع المدني.
  • تعزيز العلاقات المدنية العسكرية.
  • معالجة الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي للشباب وفقا لجوزيف أسونكا من أفروباروميتر، المنظمة الإفريقية الرائدة لأبحاث الرأي – يجب على الشركاء الدوليين مساعدة المواطنين الأفارقة على فرض مساءلة أفضل في حكوماتهم، وخاصة في المراحل الانتقالية بعد الانقلاب.
  • طلب دعم القيادة من داخل إفريقيا من خلال الاتحاد الإفريقي والهيئات الحكومية الدولية الإقليمية والحكومات الوطنية والمجتمع المدني، ويجب أن يشمل ذلك الدعم السياسي والاقتصادي لخطة الإتحاد الإفريقي لتنمية القارة ( أجندة 2063).
  • بناء حصن ضد التراجع الديمقراطي بما في ذلك تقييد القادة الذين يحاولون اختلاس الأموال، أو تغيير الدساتير بشكل غير قانوني، أو سرقة الانتخابات.
  • مساعدة الولايات المتحدة البلدان الإفريقية على الاستفادة بشكل أكثر شفافية من مواردها الطبيعية بما في ذلك موارد الطاقة والمعادن الحيوية من أجل التنمية المستدامة مع المساعدة، في الوقت نفسه في تعزيز سلاسل التوريد المتنوعة والمفتوحة والتي يمكن التنبؤ بها.
  • ستعمل استراتيجية الولايات المتحدة بشكل وثيق مع الشركاء الأفارقة والمتعددي الأطراف لمعالجة دوافع انعدام الأمن الغذائي وتعزيز إنتاج الغذاء للتخفيف من مخاطر سوء التغذية والمجاعة التي تقدر الأمم المتحدة أنها تؤثر على ما يقرب من 800 مليون إفريقي.
  • رفع مستوى الشراكة الأمريكية الإفريقية بتوسيع نطاق ارتباطات أمريكا والاستمرار في الاستثمار في الدول الكبرى مع تعميق العلاقات مع الدول الإفريقية الصغيرة والمتوسطة من أجل تعزيز التعاون والارتقاء بأولوياتها المشتركة، بما في ذلك أجندة الإتحاد الأفريقي لعام 2063.
  • الانخراط  مع الديمقراطيات الإفريقية الناشئة، وزيادة  المساعدات لدعم الانفتاح الديمقراطي الواعد.
  • تجديد جهود الدبلوماسية العامة.
  • دعم التنمية المستدامة والقدرة على الصمود.
  • تعزيز أدوات للتعامل مع الجيوش الإفريقية وخاصة البرامج التي تدعم بناء القدرات المؤسسية اللازمة، ومكافحة الفساد، والعمل على إصلاحات قطاع الأمن.
  • تطوير قدرة الشركاء الأفارقة على قيادة وتعزيز السلام والأمن الإقليميين؛ ومكافحة الإرهاب وغيره من أشكال التطرف العنيف؛ وكذا المساهمة في الوعي البحري بقيادة إفريقية؛ وتوفير الأمن اللازم لازدهار الديمقراطيات والمجتمعات.
  • إعادة النظر في مستقبل قانون النمو والفرص في إفريقيا الذي ينتهي في عام 2025، وسوف تدعم الاستراتيجية اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية.

بقلم: سامية بن يحي باحثة جزائرية في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

 

 

 

شارك هذا المنشور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.