الفطام الإلكتروني …!
د .نيرمين ماجد البورنو
مع فرط استخدام التقنيات التكنولوجية أصبحنا نعيش متلازمة الشاشة الإلكترونية وهي بمثابة ناقوس خطر حقيقي يهدد مجتمعاتنا وبيوتنا وأطفالنا بوجه الخصوص, وتؤدي تلك المتلازمة الى زيادة الضغط على المخ وهو ما يؤدي إلى خلل في النُظم البيولوجية، ومن ثم خلل في الجهاز العصبي للأطفال, وبالتالي يضعف تركيزهم وتزيد نسبه السلوك العدواني والعصبية المفرطة ويشعرون بالإحباط والاكتئاب والغضب ويقل مستواهم العلمي, وبالتالي يعزفون عن التفاعل والمشاركة مع الأطفال الاخرين وهذا أكبر دليل ومؤشر على ميله الى العزلة, والغريب بالأمر أن بعض الأسر تراسل أفرادها داخل المنزل الواحد عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي, ولا تستطيع أغلب الأمهات منع أطفالهن من مشاهدة مقاطع الفيديو واللعب حتى أن بعضهن يفقدن السيطرة على الأمر بينما تحاول أخريات التخلص من صراخ الطفل بشراء أجهزة خاصه بهم تمكنهم من اللعب طول اليوم, في دراسة حديثة نسبيا طبقت في مجلس المملكة المتحدة من أجل سلامة الأطفال على الإنترنت، لوحظ أن نسبة تعامل الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و16 سنة مع الإنترنت بلغت حوالي 94%، وأبرزت الدراسة المخاطر التي واجهت الأطفال، حيث قال واحد من كل عشرة أطفال إلى واحد من كل خمسة مراهقين إنهم واجهوا مشاهد أثارت مخاوفهم ومواقع إباحية بالإضافة لتعرضهم للتنمر الإلكتروني والابتزاز الجنسي وقد يصبح الأطفال ضحايا للتخريب الالكتروني أو لصوص الهوية أو مشتهي الأطفال أو حتى الخاطفين, وفتحت قنوات جديدة للإتجار بالأطفال.
هذا هو العصر الرقمي حيث الانتشار السريع لتقنية المعلومات والاتصالات والذي غيّر العالم ومعه شكل حياتنا اليومية، وتصرفاتنا في المراحل العمرية المختلفة سواء بشكل سلبي أو ايجابي فالنتيجة بالمحصلة أنها أثرت في نمط الحياة التي نعيشها وأصبحنا نعتمد عليها بشكل كبير ومفرط, ولعقود طويلة ظلت الأسرة والمدرسة تلعب دوراً حيوياً في تكوين مدارك الإنسان وساهمت في تشكيل المنظومة القيمية والأخلاقية التي نشأ عليها , أما اليوم فقد تغير هذا الدور وانتقل جزء كبير منه الى شبكات التواصل الاجتماعي والألعاب الالكترونية المدمرة مما ساهم في توسيع وتعميق الفجوة وتكريس الصراع بين جيلي الآباء والأبناء, هذه الفجوة أحدثت مشكلة أكبر في مجتمعاتنا الا وهي التنافر بين أفرادها داخل البيت الواحد فقطعت الرحم وتلاشت فيها قيم التواصل والمحبة الأسرية وباتت تهددها اليوم في كيانها حيث بات التواصل بين أفرادها شبه معدوم , كما أن هذه الأجهزة تشكل خطرا على الأسرة وخصوصا العلاقة بين الزوجين حيث أنها تعزز الشك في ما بينهم وقد تؤدي الى الخلافات وقد تنتهي بالطلاق أو الانفصال العاطفي, وسائل التواصل الاجتماعي وعلى رأسها «فيسبوك» أصبحت أقصر الطرق إلى الطلاق والانفصال بين الزوجين، هذا ما خلص إليه عدد من الدراسات الحديثة، أبرزها دراسة أجرتها الأكاديمية الأمريكية لمحامي الطلاق، وأخرى نشرتها صحيفة الإندبندنت نقلًا عن جمعية المحامين الإيطالية, ويأتي موقع «فيسبوك» في صدارة كافة المواقع، إذ يعد المتهم الأول المسؤول عن ارتفاع نسب الطلاق العالمية، تلك الوسائل أوجدت جيل أمي لا يستطيع التواصل مع مجتمعه الواقعي الذي يعيشه, جيل محروم من الرابط العاطفي بين الأهل والأولاد فانشغال الأهل بالعمل المستمر عبر الأجهزة لا يمنحهم الوقت الكافي لتربية الأطفال, وبالتالي استبدل الأبناء الانترنت بآبائهم كمصدر للمعلومات وفقدوا الترابط الاسري والتصقوا بالحديث مع الغرباء لدرجة الشعور بالغربة على مستوي الاسرة الواحدة, إن الوسائل والتقنيات الالكترونية ساعدت على انكماش الكرة الأرضية من حيث الزمان والمكان وسميت بالقرية العالمية والتي سميت لاحقًا بـ”عصر القلق” لأن ثورة الاتصال الإلكتروني أجبرت الأفراد على الانغماس بهذا العالم والالتزام بالمشاركة به.
لقد أوجدت التكنولوجيا جيل منقطع اجتماعياً, فالكل منكب على جهازه لا يعي ماذا يدور من حوله, تساؤلات كثيره تراودنا بهذا الشأن فهل التطور التكنولوجي والهواتف الذكية سرقتنا من بعضنا؟ وهل سيطرت على عقولنا الى درجة أنها أصابت الأزواج بحاله من الخرس الأسري؟ وكم أثارت غيرة الأزواج عند رؤيتهم للآخر وهم يتواصلون مع أشخاص غرباء؟ وهل الهاتف الذكي هو المتسبب بإصابة مستخدميه بالغباء الاجتماعي والكسل والادمان ؟ وهل ساهمت الأجهزة الذكية في زعزعة الترابط الاجتماعي وتهشيم العلاقات البشرية؟
لا ينكر عاقل أن الهواتف الذكية أصحبت الان تلعب دورا كبيرا في حياة الناس فلقد أصبحت وسيلة للتواصل الاجتماعي والمعرفي والترفيه, ولكن التهافت الكبير على التقنية لا بد أن يمل منه يوماً ما، لأن الانشغال بالهواتف الذكية في التجمعات الأسرية، يدل على الجهل والبعد عن حدود اللباقة، كما أنه يحمل دعوة للتوحد؛ لأن الشخص يشعر بأنه دائماً لوحده, لذا يجب على الا يحتل الهاتف الذكي مساحة كبيرة من الوقت المخصص للأسرة والزوج ووضعه جانبا في حال مجالسة الزوج والابتعاد عن الحياة الزوجية الروتينية , ولا بد من حث الأبناء على استخدام هواتفهم بطريقة مسؤولة ومعقولة، ولا بد من غرس هذه المخاطر في أدمغة أبنائنا وتشجيعهم على الاعتدال في استخدام الهواتف الذكية, فاحذروا إدمان الهاتف الذكي لأنه يؤثر على كيمياء المخ, فقد يكون استخدامها باعتدال من أهم آليات تنمية قدرات ومهارات المستخدمين وتوسيع مداركهم وتزويدهم بالمعارف اللازمة لبناء شخصياتهم، إلا أن هذه الفوائد تتوقف على الاعتدال والتوازن بين المجال الافتراضي ومعايشة الواقع والتأقلم مع المحيط وتوفير سياق اجتماعي يتضمن فرصاً للتمكين والتميز للنشء وإتاحة قنوات لاستيعابهم ودمجهم في المجتمع من خلال الحوار القائم على تقبل الآراء المختلفة، وتعزيز القيم الروحية والاخلاقية لديهم والتي تحض على التعاون والفضيلة واحترام المجتمع والأسرة وتقدير الإنجاز والمعرفة, وفي النهاية ينبغي أن تظل تلك الوسائط أدوات في أيدينا نستخدمها ولا تستخدمنا، نملكها ولا تملكنا، نتعامل معها بقدر الحاجة ولا نستسلم لما تفرضه علينا من قيم دخيلة.
اترك تعليقاً